د. شاهر النهاري
فجعنا بالأمس القريب بوفاة الكاتب العذب الأبهاوي محمد علوان، ورغم معرفتنا بأنه كان يعاني من وعكات عدة، إلا أنه أفزعنا وأحزننا كثيرًا، وجعلنا نطوف على كعبة الأدب، وننظر له بأعناق مشرئبة، يسيح حبر دهشتنا حكمة ومعاني عميقة وعجبا: أما آن لهذا الكاتب أن يترجل.
عرفته مبكرا قلم باركر، وأنا أحمل ديواني الأول باللهجة الجنوبية، وأضعه على مكتبه بوزارة الإعلام، إدارة الفسوح.
سلم بحرارة عندما عرف اسمي، وسألني عن أحوال أقرانه وزملاء دراسته من إخوتي الكبار، وكنت أنقل له المعلومات عنهم، وعن مراكزهم، وهو يتصفح ملامحي ليعرف من أكون، وبأي طعم خريف أتيت به له.
استأنس ونثر البسمات، وهو يحكي بعض ذكرياته في البلدة الساحرة أبها، التي يموت عشقا فيها، وهو يستقي من مسمى ومحتوى كتابي أني عاشق آخر أتيت ممتشقا سهم الحب، لأصطف ضمن صفوف طويلة من الخطاب المحبين لهذه البلدة الغائمة الجبلية، الخضراء، الباردة، اللذيذة عيشتها، وتربتها وأجواؤها وطيبة أهلها، من ساكني تاريخ الأصالة، كما من أتوا من على البعد زوارا لها، ثم لم يفارقوها بأرواحهم، حتى بعد أن رحلت أجسادهم.
تصفح مسودة كتابي، وأنا أتناول فنجانا من الشاي، وعيناه تزوغ عن الأوراق وتسألني: ما الذي أتي بك من الطب، للأدب؟
ولم أكد أجاوبه، حتى وجد مقدمة الكتاب، والتي كتبها الفريق الأديب يحيى المعلمي حينها محبة وثقة ودعما، فرأى أن ما حوته المقدمة من معاني، تحكي الكثير، وتعتبر شهادة ترسيخ لوجود أدبي قادم.
تنقل بين صفحات الكتاب، بعينين تزوغ من خلف نظارته، وتبسم وهو يقرأ قصيدة الجدة، ثم قال لي: لماذا اخترت للكتاب هذا الاسم؟ كان من الأفضل أن تستخدم ما أطلقته على نفسك في إحدى المقطوعات: مداوي الجروح!
وأسهب يشرح كيف أن هذا المسمى أقرب لي كأديب يحضر من بعيد، وكطبيب يداوي الجروح.
وافقته على الاسم، فقام بتغييره على المسودة بنفسه، ثم وعدني بإكمال إجراءات إصدار الفسح، وإذن الطباعة عما قريب.
ذلك هو محمد علوان، الكاتب الحالم، والعاشق للجمال، والذي يمتلك خيوط الأدب والمعرفة والذوق، والشمولية، والقلب الطيب، الذي تهتكت صماماته بالحب.
ومرت السنوات، ولم أشاهده مرة ثانية، إلا وهو مريض في مستشفى الحرس الوطني، وكان قد خضع لعملية قلب مفتوح، فحاولنا تسليته، وقلنا له أنه اليوم أصبح أكثر وضوحا، وأن قلبه المفتوح مدعاة لبوح أكثر شفافية، وأنه سيظل يضخ المشاعر سنوات وأعمار طويلة.
أبو غسان، أفيدكم بأني قد ذهبت لأداء العزاء، وكان عزاء النساء في منزلك الشاحب بغيابك، وكان عزاء الرجال في مخيام مؤقت تم إنشاؤه في الساحة القريبة لمنزلكم.
قابلت هناك معظم أفراد أسرتكم الكريمة، ومحبيك، وأصدقائك، ونقلت لهم التعازي الحارة، ولو أني كنت غير مصدق برحيلك، فجعلت أنتظر، أن تدخل علينا المخيام، وأن تنهي هذه الليلة، وتفض الجموع ببسمة، واعتذار.
صديقي، لا جديد فاتك، فالراحلون يتقاطرون على عالم الغياب، وكل له محبين، وله من يجاملون، وكل توقد له في ليلة رحيله القناديل، وتتناغم الدعوات، وتشرح المشاعر، وهنالك بعض من محبرة وحبر يسيح، وربما يكتب الناسخون تعزياتهم، وربما تختفي العبارات تحت بقعة الأخبار عن الراحل، وربما ينشغل البشر عن كل شيء، إلا أنفسهم، وأحاديثهم، وسؤالهم عن هذا، وذاك، وأنت لست غريبا على المآتم، وما يحدث فيها من مجاملات وبكاء، قد لا يظهر، ومن حسرات وترحم، ومن فناجين قهوة وشاي، ومن كراسي، يجلس عليها من أراد الجلوس، إلا ذات الراحل، الذي تظل غيمة سيرته منزوية غريبة صامتة حزينة تدور حول مجالس المعزين، وهي تسأل عن الحقيقة، ويصعب عليها جرح الجواب.
أبو غسان، لا شيء فاتك، فمنذ الأمس اشتعلت تغريدات الوداع، وانهالت الكلمات الجميلة تذكر محاسنك، وكتب كل صديق حكايته معك، والبعض حكى وأسهب، والمقالات والعناوين الصحفية لن تتوقف، إلا بعد فترة فتور، وبعد أن تهدأ العاصفة، التي تعودنا مثلها في تأبين الرائعين، والمبدعين أمثالك، هذا يحدث بعد رحيلهم، وليس قبل ذلك، ولو بأيام.
نعم يا زميل الحرف، الكل ينسى أن يذكر المحاسن قبل الرحيل، والكل يعتني بنفسه وينافس، وحينما يحزن لا يحزن إلا عليها، وحينما يمدح الراحل، فهو يتمنى لو يمتدح هو بعد الرحيل، وأن تفرش له السطور بحبر الدموع، وهو منزوٍ هناك في المجهول، لا يعرف بما يحدث، وإن عرف، فلن يستطيع أن يعود ولو دقيقة من الغيب، ولن يشكر من كتب صدقا، ولن يلوم من بالغ ووهب المسميات والنياشين المعنوية، وفي الوقت نفسه فلن يتمكن من تعنيف من زاد أو أنقص، أو حكى ما لم يحدث، وحاك بيوت عهن من المجاملات بما تخيله حدث بينه وبين من ليس موجودا بيننا يسمع، ولا يهز رأسه بالموافقة ولا الرفض، ولا أن يصرخ بصوت الضجر: كفوا عني، فأنا لا أتذكر كل هذا، وليس بسبب الزهايمر، ولكن لكون كل ذلك خيالا لم يحدث.
رحمك الله يا صديق الريف الأبهاوي، ويا غيمة رجال المع المباركة، ورحم روحك الخضراء، التي تشابه نبتة فركسة يانعة تهب الحب والحلاوة الغضة، وإبداع جمالياتها محمولة فوق أغصان محبة خضراء الأحبار.