د.سالم الكتبي
بعيداً عن الذهاب في إثبات أو نفي الشكوك الغربية التي تحوم حول مقتل قائد مجموعة «فاغنر» الروسي يفغيني بريغوجين، الذي يقال إنه «قتل» قبل ذلك مرتين على الأقل في حوادث سقوط طائرات مماثلة خلال الأعوام الماضية ثم عاد للظهور، فقد نجح الرئيس بوتين في إرباك حسابات الغرب وشغل دوائر الاستخبارات الغربية في البحث عن مصير صديقه الذي طالما وصف بالمقرب، سعياً وراء محاولة فهم تفكير الرئيس الروسي في قادم الأيام.
المؤكد في المسألة كلها أن مصلحة بوتين هذه المرة تكمن في غياب بريغوجين وترميم ما لحق بالصورة الذهنية لنظام الحكم الروسي جراء ما قيل عن محاولة الانقلاب التي تبقى، بنظري، لغزاً أهم من مقتل بريغوجين أو بقائه حياً.
قصة «بريغوجين» من أولها لآخرها مليئة بالألغاز التي تتحدى العقل وتحرضه على البحث ومحاولة الفهم، فبين البداية كصاحب «سوابق جنائية» والنهاية كصاحب أكبر شركة أمن خاصة في العالم، هناك العديد من القصص والحكايات التي تلهث الاستخبارات الغربية في البحث عن حقيقتها من أجل فهم استكمال الصورة وفهم ما يدور فيما وراء أسوار الكرملين.
بغياب «بريغوجين» سواء بالقتل أو بغيره، تحول الرجل إلى أحد أهم أساطير الشركات الأمنية الخاصة في العالم، فهو من حاول، أو هكذا قيل، الانقلاب على السلطة في إحدى أكبر القوى الدولية، وهو أيضاً من وقع، أو هكذا قيل أيضاً، بسذاجة مفرطة في فخ ركوب طائرة جمعت قادته ومعاونيه جميعاً، ليسدل الستار رسمياً على قصته التي شغلت العالم لأشهر عدة. وبغيابه أيضاً يصحب الأهم هو مناقشة مصير «فاغنر» وخططها خلال المرحلة المقبلة بعد أن تحولت إلى أحد أهم أذرع روسيا في العالم.
أهمية الموضوع لا تنبع من قصة صعود «بريغوجين» بطبيعة الحال، بل من الأدوار الإستراتيجية بالغة الأهمية التي لعبتها مجموعة «فاغنر» سواء في حرب أوكرانيا، أو في دول وقارات عدة أبرزها إفريقيا، التي توغلت فيها المجموعة لتصبح رأس حربة روسيا في صراعها الجيواستراتيجي مع الغرب على النفوذ في القارة السمراء تحديداً.
لعبت «فاغنر» في السنوات الأخيرة الدور الأبرز في التمدد الإستراتيجي الروسي عالمياً، وفي الآونة الأخيرة تتحدث التقارير الإعلامية عن عملية إعادة هيكلة كاملة تشهدها المجموعة، وأن القوة العسكرية للمجموعة قد انخفض عددها بنحو الربع بعد التخلص من كثير من العناصر شديدة الولاء للقائد السابق.
«فاغنر» لم تعد «ماركة تجارية» خاصة ببريغوجين لاسيما بعد أن أقرت الدولة الروسية بمصادر تمويلها الحقيقية، وأنها منذ أولها لآخرها منتج روسي خالص وليست شركة تابعة لصديق الرئيس كما أُعلن، وبالتالي فإن المجموعة مستمرة في أداء مهامها التي نجحت فيها باقتدار كبير، في ظل احترافيتها وقدرتها الشديدة على التكيف والتنقل والتحول والعمل في مختلف بيئات الصراع، وهي سمات يصعب توافرها بسهولة في الجيوش النظامية التي اعتادت على روتين صارم، ولاسيما فيما يتعلق باتخاذ القرار الميداني، الذي يتطلب أحياناً سرعة فائقة تتوافر في المجموعات شبه العسكرية التي لا تخضع للقوانين التقليدية.
وبالتالي فإن ما يمكن توقعه أن «فاغنر» باقية وستتوسع ولكن من خلال العمل المباشر تحت إشراف الجنرالات الروس، الذين كان بريغوجين يشكك في قدراتهم وكفاءتهم، وبالأخص وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، لدرجة وضعته في صدام مباشر مع الجميع، وهذا من ضمن ما وصفه الرئيس بوتين بالأخطاء التي ارتكبها القائد السابق للمجموعة، وكان من الصعب أن تمر مرور الكرام.
«فاغنر» ليست مجموعة قتالية فحسب بل منظومة متكاملة تعمل في خدمة أهداف السياسة الخارجية الروسية، والأدوار العسكرية التي تقوم بها هي جزء من أعمالها وليست كلها، فهناك أنشطة إعلامية دولية بالغة التأثير تقوم بها المجموعة للتأثير في الرأي العام بالدول الإفريقية التي تقوم بها المجموعة في مجالات التعدين والتنقيب عن الذهب وتجارة الماس في دول إفريقية عدة، بالإضافة إلى أنها تحولت إلى مؤسسة لنشر الثقافة الروسية وأنشأت مراكز ثقافية روسية ومحطات إذاعية في بعض الدول الإفريقية.
أحد أبرز أهم الجوانب في ملف «فاغنر» أن الرئيس بوتين قد نجح في مراوغة الغرب، وشغل دوائر الاستخبارات المعادية له في البحث عما وراء قصة «فاغنر» وكيف كانت وإلى أين تتجه، ليستعيد بذلك زمام المبادرة في إدارة الصراع الجيواستراتيجي الذي لا يقتصر على أوكرانيا، ويبدو أنه سيمتد قريباً لمناطق أخرى في العالم.