د.عبدالله بن موسى الطاير
فَهِم صديق عزيز من الراسخين في البحث أنني أضع المحافظين في كفة واحدة في موقفهم الرافض للمثلية والهوية الجنسانية، وأنني أصنف الليبراليين في فريق واحد مؤيد. قد تفرض المساحة المتاحة للمقالة الصحفية عدم الولوج إلى تفصيلات واستطرادات مفهومة بالضرورة، أو متوقعة في السياقات المعروضة، لكن ملحوظته حفزتني لمناقشة المحافظة ذاتها بين السياسة والأيديولوجيا.
غالبًا ما يُنظر إلى المحافظة، وهو مصطلح يتم تداوله كثيرًا في الخطاب السياسي والاجتماعي، على أنه أيديولوجية متجانسة. ومع ذلك، فإن هناك فرقًا بين المحافظة السياسية والمحافظة الأيديولوجية. لمناقشات موضوعية حول المحافظة، من الضروري فهم الفروق الدقيقة بين هذين المصطلحين.
تعتبر النزعة المحافظة سواء أكانت سياسية أو أيديولوجية، ظاهرة متعددة الأوجه، معقدة ويصعب التعميم في إطلاقها. إدراك الفروق والتداخلات بين أشكالها المختلفة يسهم في فهم أكثر شمولاً لها، فوتيرة تطور المجتمعات وديمومة حراكها يستدعي، تفكيك المصطلحات، وتعميق الفهم، وإجراء حوارات واعية لأبعادها. وكما أن لكل علم رجاله، فإنه ينظر إلى رسل كيرك كأحد أبرز المؤرخين والمفكرين المحافظين السياسيين في القرن العشرين، ودون في كتابه «جذور المحافظة الأمريكية معتقداته في هذا المجال، وكذلك فعل كل من إدموند بيرك، وجيراردو هيمنغواي، والبريطاني روجر سكروتون.
تتعلق المحافظة السياسية في المقام الأول بالتطبيق العملي في الحكم وصنع السياسات، وغالبًا ما يكون الساسة المحافظون مدفوعون بالرغبة في الحفاظ على استقرار واستمرارية الهياكل الاجتماعية القائمة، ويتجنبون التغيير غير الضروري وغير المدروس بعناية، وبخاصة فيما يتعلق بصيرورة المجتمعات واستقراراها. وهم يقدرون الأوضاع الراهنة، ويسعون إلى تجنب التغييرات الجذرية، خاصة إذا كانت هذه التغييرات تهدد بزعزعة استقرار المؤسسات أو التقاليد الراسخة، وربما لا يكون ذلك بسبب محافظتهم التقليدية أو الدينية أو الأيديولوجية، وإنما بسبب فكرهم الإداري المحافظ. وهم في الغالب واقعيون، منفتحون على التغيير وفق أدواتهم وشروطهم، كميلهم إلى التدرج بدلاً من التحولات الجذرية، ويتمسكون بالقوانين والأنظمة التي صمدت أمام اختبار الزمن، ويرون أن تغييرها لمجرد التغيير عبث إداري له تبعات سياسية كبرى. وجهة النظر هذه تسيطر على عقلية المشرعين في الولايات المتحدة وهو ما جعل دستور الولايات المتحدة الأمريكية أحد أصغر دساتير العالم حجماً لقلة مواده وتعديلاته رغم مرور نحو قرنين ونصف القرن على إقراره.
ليست المحافظة السياسية حكرًا على الجمهوريين، وإنما يتدرج الديموقراطيون في سلالم المحافظة السياسية رغم انفتاحهم الفكري والأيدولوجي على التغيير الجريء والعنيف والصادم أحياناً. وترتبط المحافظة السياسية في العديد من السياقات، وخاصة في الديمقراطيات الغربية، بدعم رأسمالية السوق الحرة، والضرائب المنخفضة، والحد الأدنى من التدخل الحكومي في الأعمال التجارية.
ومن ناحية أخرى، فإن المحافظة الأيديولوجية متجذرة في مبادئ فلسفية محددة تؤطر رؤية الفرد للعالم، وهذا النوع من المحافظة يدور حول «لماذا» أكثر من «ماذا»، وذلك لأن فهم الأسباب أو الأسباب الكامنة وراء حدث أو إجراء ما، هو أكثر قيمة أو إفادة من مجرد معرفة الحدث أو الإجراء نفسه من وجهة نظر المحافظة الأيدولوجية. السبب يوفر رؤى أعمق حول السلوك البشري أو الأنظمة أو الأنماط، مما يسمح بتنبؤات أو تدخلات أو إستراتيجيات أفضل في المستقبل. يؤمن المحافظون الأيديولوجيون بالنظام الأخلاقي الطبيعي، والذي غالبًا ما يستمد من التقاليد الدينية أو الثقافية، ويدركون القيود والعيوب المتأصلة في البشر، مما يُشكك في الظواهر المبالغ فيها وبخاصة خطط الحكومة الفيدرالية أو المحلية ووعودها الطوباوية. ينظر هذا الفريق إلى أن التقاليد حكمة متراكمة من الماضي، ويحذرون من التسرع في التخلص منها باسم التقدم، ولذلك تجد في الولايات المتحدة الأمريكية مثال ناصع الوضوح لتجمعات بشرية محافظة تعيش خارج دائرة الحداثة.
صحيح أن المحافظة السياسية قد تصبغ أفكارًا وسياسيات بعض الديموقراطيين الليبراليين، إلا أن التلازم بين المحافظة السياسية والأيديولوجية يظهر بشكل جلي، فقد يؤمن الشخص بالمبادئ الفلسفية للمحافظة الأيديولوجية ويرى أن النهج الذي يركز على الاستقرار للمحافظة السياسية هو أفضل وسيلة لدعم تلك المبادئ، إلا أن هذا الإيمان ليس محصناً ضد صراع التناقضات؛ على سبيل المثال، قد يدعم أحد المحافظين السياسيين سياسة ما، لأنها تحافظ على الاستقرار، حتى لو كانت تتعارض مع المبادئ الأخلاقية للمحافظة الأيديولوجية.
ربما يفسر هذا النقاش ظاهرة الثنائية الحزبية التي تسيطر على المجتمعات الغربية، حيث يتشكل تياران كبيران؛ محافظ وليبرالي يتقاسمان الأمة الأمريكية عن طريق الحزبين الوحيدين عمليًا في أمريكا وهما الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي، وينسحب ذلك على السياسة البريطانية الممثلة في المحافظين والعمال، وإن بدرجة أقل صرامة. الأحزاب السياسية الغربية ليست ظواهر جوفاء، وإنما تستند على فكر متمكن ومتجذر في تلك المجتمعات يكاد يكون عقيدة لكل مشرب من المشارب السياسية والأيديولوجية، بينما تفرخ المجتمعات الأقل رسوخاً وعمقاً عشرات الأحزاب المتصارعة.