د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
تعد خطوة الولايات المتحدة التحول إلى الاقتصاد الأخضر مشروعاً طموحاً تهدف من وراء ذلك نحو بناء قوتها الصناعية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتم ربطها بقانون خفض التضخم، وضخ نحو 370 مليار دولار لدعم هذا التحول بما يشمل إعفاءات جمركية تصل إلى 75000 دولار لشراء مركبات كهربائية تم تجميعها في الولايات المتحدة.
هذه الحوافز التي تعزز الصناعات الأمريكية بعد سنوات من اعتماد الولايات المتحدة على التصنيع خارج أراضيها، أثارت المخاوف من أنها تؤدي إلى سحب أعمال تجارية من بلدان حول العالم، وقلق هذه الدول من هدف الولايات المتحدة المعلن باستقلالية واشنطن في المجال الصناعي على غرار اتخاذ ريتشارد نيكسون بعد أزمة الطاقة عام 1973 عندما قال ينبغي أن يكون لتلبية احتياجات الطاقة في منطقتنا دون الاعتماد على مصادر أجنبية، وكرر باراك أوباما والسيناتور جون ماكين في حملاتهما الانتخابية فكلاهما شعرا بالأسف الشديد حيال اعتمادية بلدهما على النفط الأجنبي رغم أن أهدافها سياسية من أجل الفوز بالانتخابات، فبالرغم من كل الانبهار السياسي المستمر بمسألة استقلال الطاقة والآن استقلال التصنيع لكن الواقع شيء آخر، بل إن التحول إلى الاقتصاد الأخضر يعني أن بايدن يتراجع عن سياسة استقلال الطاقة في عهد ترمب، خصوصاً بعدما أوقف بايدن خط أنابيب كسيتون إكس إل.
رغم ذلك استوردت الولايات المتحدة في 2020 آخر سنة في عهد ترمب نحو 7.9 مليون برميل يومياً من النفط والمنتجات البترولية وهو أقل مما استوردته في عام 2016 بنحو 10 ملايين برميل يومياً، وهو آخر عام في عهد الرئيس باراك أوباما، لكن بلغ إنتاج الولايات المتحدة من النفط الخام والسوائل الأخرى 20.28 مليون برميل يومياً عام 2022 منها 11.88 مليون برميل من النفط.
بات صناع القرار في الولايات المتحدة أكثر إدراكاً لمخاطر التضخم الناتج عن التحول إلى الاقتصاد الأخضر من نظرائهم في الاتحاد الأوروبي ووكالة الطاقة الدولية الذين ما زالوا يتحدثون فقط عن إيجابيات التحول على الطاقة النظيفة، لذلك نرى عاموس هوخستاين المبعوث الأمريكي لملف الطاقة يؤكد بقوله إذا أردنا حل مشكلة التغير المناخي، فعلينا عمل ذلك مع ضمان حماية الاقتصاد العالمي من أي صدمات ناجمة عن أسعار الطاقة، بذلك تتوافق أمريكا مع تحذير السعودية لوكالة الطاقة والاتحاد الأوروبي من التحول غير المدروس أو التحول السريع للطاقة النظيفة بما ينعكس على أمن إمدادات الطاقة.
رغم ذلك دخلت الولايات المتحدة إلى اللعبة بقوة فيما يخص التحول إلى الاقتصاد الأخضر من أجل تحقيق الاستقلال في مجال التصنيع، وتخفيف الاعتماد الاستراتيجي بمواجهة الصين.
ترى الولايات المتحدة أن أوروبا والصين بدأتا قبل الولايات المتحدة وقبل خفض التضخم تدعم تطوير التكنولوجيا النظيفة، لذلك كان دخول الولايات المتحدة متأخراً، فهي ترى أن الدعم لابد أن يبقى تنافسياً، وينبغي مواصلته أو زيادته من أجل إعادة بناء قوتها الصناعية، لكن له تداعيات غير مقصودة عبر تقييد التجارة مع أبرز حلفاء الولايات المتحدة الذين يقيمون معها اتفاقيات تجارة حرة، ما يترك دول الاتحاد الأوروبي واليابان خارج تلك الحسابات ما يفتح الباب للحصول على مزايا من جزء من الدعم الذي خفف من حدة المخاوف.
رغم ذلك يرى محللون أن تلك الخطوة في التحول إلى الاستقلال في المجال الصناعي عبر التحول إلى الاقتصاد الأخضر لا تمثل سوى زيادة الإنتاج ستة إلى 30 في المائة في المعدات الكهربائية والبصرية يمكن أن تكون الخسائر في قطاعات معينة أن تكون أكبر، رغم أنه منذ توقيع بايدن على قانون المناخ تم الإعلان عن جذب استثمارات صناعية جديدة بقيمة 75 مليار دولار بحسب معهد إبداع الطاقة السياسية والتكنولوجيا، في وقت تواجه فيه أوروبا ارتفاعاً في تكاليف الطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، خصوصاً في مجال قطاع طاقة مكثفة مثل الكيماويات تبدو الولايات المتحدة جذابة بشكل أكبر.
لكن في صناعة الرقائق تتبارى حكومات في أوروبا وأمريكا مستخدمة مليارات الدولارات من الإعانات العامة لجذب صناعة الرقائق الأساسية للمستقبل على أراضيها مكرسة عهد الدولة إلى السياسة الصناعية، فتقديم ألمانيا 10 مليارات يورو إلى مجموعة إنتل الأميركية لإنشاء مصنع لإنتاج أشباه الموصلات في مدينة ماغديبورغ كحال الصناعات المرتبطة بالتحول في مجال الطاقة مثل البطاريات الكهربائية، جانباً أساسياً من سيادة العديد من الدول تتنافس لتركيز صناعات منتجات كهذه على أراضيها، وكذلك فرنسا قدمت إعانات 40 في المائة من تكلفة إنشاء مصنع جديد لمجموعة STM المنتجة لتقنيات أشباه الموصلات في منطقة غرونوبل، وكذلك قدمت إيطاليا ثلث كلفة إنشاء مصنع للمجموعة ذاتها في صقلية.
فلا عولمة دون مخاطر خصوصاً في ظل توترات جيوسياسية كبيرة، حيث تعتبر أمريكا أنها من اخترعت الرقائق الإلكترونية بفضل برنامجها للفضاء وعلى مدى 30 عاماً كانت تصنع 40 في المائة من إجمالي إنتاج الرقائق في العالم بعدما انتقلت إلى خارج الحدود أصبح الإنتاج في الولايات المتحدة لا يزيد عن 10 في المائة فقط التي أصبحت محور حرب بينها وبين الصين، فاتجهت إلى تكثيف جهودها ومساعيها لإعاقة تقدم الصين في صناعة الرقائق، وقدم مجلس الشيوخ 52 مليار دولار لتصنيع الرقائق الإلكترونية محلياً.