أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: إنّ تكريمي من وزارة الثقافة كان مفاجأة سارة لي بعد مشوار امتد أكثر من ثمانين عامًا في مساهمات متنوعة في الحركة الثقافية والعلمية، وهو دليل على المستوى المشرف الذي وصلت إليه الحركة الثقافية من ازدهار وتقدم، بفضل توجيهات خادم الحرمين الشريفين حيث استطاع المثقف السعودي أن يكون نموذجاً مشرفاً ويقدم عطاءات مميزة.. وبهذه المناسبة يسعدني أن أرفع وافر الشكر والتقدير لصاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود وزير الثقافة على ترشيح الوزارة لي وتشريفي باختياري (شخصية العام الثقافية لعام 2023م)، والتي تمت برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان أيده الله، وهذا التكريم يعد مصدر فخر واعتزاز لي وهو امتداد لعناية واهتمام سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود بالمثقفين والمفكرين والكتاب في ربوع مملكتنا الحبيبة.
قال أبو عبدالرحمن: الثقافة مصطلح حديث لم تعرفه لغتنا، ولا تراثنا الاصطلاحي.. (مثل التعريفات للجرجاني، والكليات لأبي البقاء، ودستور العلماء للأحمد نكري، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي) بالمعنى الاصطلاحي الراهن، ولكنه صحيح المأخذ من لغتنا من مادة (الثاء والقاف والفاء)، ويتدنى بجلال الثقافة والمثقف من يظن أن الثقافة تعني العرف القديم لكلمة (أدب) الذي هو الأخذ من كل فن بطرف على نحو كتب المسامرات كالمستطرف!.. والواقع أنها أسمى من ذلك؛ لأنه يلحظ فيها المعاني اللغوية من الحذق، والمهارة، والجودة، والتهذيب، والتقويم، والتعليم، والتربية، والفطنة، والظفر والإدراك، قال الراغب الاصفهاني عن بعض المعاني اللغوية: الثّقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، منه قيل: رجل ثقف، أي حاذق في إدراك الشيىء وفعله، ومنه استعير المثاقفة (أي الملاعبة بالسلاح) ورمح مثقف، أي مقوّم، ويقال: ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك، لحذقٍ في النظر، ثم يتجوز به، فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة.. انظر (مفردات ألفاظ القرآن) ص 173.
قال أبوعبدالرحمن: تأملت الاصطلاح الحادث للثقافة، فوجدته يحددها ذاتا؛ وهي ما ذكرته من حذق وفطنة.. إلخ، وينوّعها حسب موضوعها، وأعني بالموضوع ما يتعلق به تثقف الفرد من المعارف والمهارات، ولقد أقر مجمع اللغة العربية بالقاهرة الثقافة بمعنى المعارف والعلوم والفنون التي يطلب الحذق فيها.. [انظر المعجم الوسيط ص 98]، وجاء أيضاً تعريف الثقافة على هذا النسق:
-1 رياضة الملكات البشرية بحيث تصبح أتم نشاطاً واستعداداً للإنجاز.
-2 ترقية العقل والأخلاق، وتنمية الذوق السليم في الأدب والفنون الجميلة.
-3 إحدى مراحل التقدم في حضارة ما.
-4 السمات المميزة لإحدى مراحل التقدم في حضارة من الحضارات.. [انظر: معجم المصطلحات الغربية في اللغة والأدب لمجدي وهبة، وكامل المهندس ص 129].. وقال (وبستر) في قاموسه: الثقافة نموذج كلي لسلوك الإنسان ونتاجاته المتجسدة في الكلمات والأفعال، وما تصنعه يداه، وقدراته على التعلم ونقل المعرفة إلى الأجيال التالية).. انظر مجلة الفيصل عدد 269 ص 16.
قال أبو عبدالرحمن: زيادة الثقافة نتيجة طبيعية لكثرة القراءة، إلا أن الثقافة تكون أفقيّةً، وتكون رأسية.. تكون أفقيّةً حينما يكون الغرض زيادة الثقافة وحسب، فينتقل من كتابٍ إلى كتاب في مختلف العلوم، ليكون محادثًا نديمًا مسامرًا، وهذه الثقافة الأفقية وحدها لا تعجبني.. والثقافة الرأسية، وهي ثقافة المؤلف الباحث المحقّق حينما يكون في رأسه أي فكرة، أومسألة (عقلية أو نقلية) في أي حقل من حقول العلم، فيشبعها قراءة وتلقيطًا، ثم يحوّلها إلى بحث محقّق، فهذه هي الثقافة الأصلية النافعة.. وهناك ما هو أردأ أنواع الثقافة الأفقيّة، وهو ما سميته بالثقافة (الخطّافية) بتشديد الطاء المهملة، فيأخذ بيت شعرٍ من ورقة تقويم، ولقطةً من تلفاز، ونكتةً تظهر له من جريدة، فيعي ذلك، ويتحدث به، فهذه هي الثقافة الخطّافية التي يخطفها على عجل من غير تأصيل ولا خبرة علمية.. وقد كان الدافع للقراءة قلّة الكتب، ومحدودية المعارف، وقلّة المزاحم من المسلّيات، وتعقيدات العصر.. وكثرة الكتب توسّع الثقافة، وتقلّل التخصص.. والآن القراءة أكثر من ذي قبل، ولكنها ثقافيًا متشعّبة غير تخصّصية إلا عند قلّةٍ، وساعد على سعة الثقافة كثرة الكتب، وكثرة أدوات التوصيل والتواصل، ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة.. وقارئ ما قبل نصف قرنٍ عميق في فنه، ولكنّ فنّه محصور في مراجع على أصابع اليد.
قال أبو عبدالرحمن: أكثرت الحديث في التباريح عن عشقي للقراءة، وأوجزه بأنني كنت حرًّا في قراءاتي، متبرمًا من الدروس الإلزاميّة، كما أن ولعي بسيرة عنترة في الصّبا ردّني إلى أدب العرب ولغتهم وتاريخهم في الجاهلية.. كما أن تعلّقي بابن حزم منذ الصغر ابتداء بطوق الحمامة (وابن حزمٍ إمام متعدّد المعارف ثقافة وتخصّصا): جرّني إلى حبّ الاستطلاع، وهو حب إلى هذه اللحظة يزداد ضراوةً.. كما أنّ أسلوب التّلقين في التعليم ضروري في مراحل الحضانة والابتدائي.. ولكن بعد نموّ المدارك: فلا بد من حرّيّة الفكر واستقلاله متسلّحًا بالعلم الغزير، وتعدّد المشارب، لا ببادي الرّأي الذي هو حرّيّة سلوكيّة وليس ضرورة فكريّة علميّة، ولا يكفي للإنسان المثقف أن يأخذ من كلّ بحرٍ قطرة كما يقال، بل لا بد من فنٍّ أو أكثر يكون فيه عالمًا متخصّصًا، ثم يوسّع ثقافته في كل فنٍّ، والناس من جهة الثقافة أصناف:
-1 مثقف كالجاحظ وابن قتيبة والتوحيدي، إلى طه حسين والعقاد.
-2 عالم خنقه التّخصص متخصص في بعض المعارف واسع الثقافة فيما لم يتخصّص فيه كابن جرير وابن حزم وابن حجر والسيوطي وابن كمال باشا، إلى بعض أعضاء المجامع اللغوية، إلى الدكتور إحسان عباس.. إلخ.
والمشكلة في غياب الحرّيّة الفكريّة، وهي حرّيّة لا تكون من قبل البشر، بل من قبل الفرد نفسه بأن يكون بعد سعة العلم والفكر حرّ التّطلع بقيد الالتزام بضرورات العقل والحس، فهذه هي مسؤوليّة الالتزام بعد حرّية الفكر التي ألجأته إلى ما يجب عليه الالتزام به بمنطق العقل الإنساني المشترك، فيرتفع الطالب منذ التوجيهي عن الحضانة والتقليد، ويتوسّع في القراءة الحرّة، ويتحرّر من التقليد والإمعيّة، ويخضع لمسؤولية عقله حريةً وقيدًا بشرط العبودية لله التي هي منتهى الحرية مما سواه.. وبشرط الهضم الجيد لنظرية المعرفة البشرية ومصادرها، ويتّبع الدليل والبرهان، ولا يستوحش من كثرة خلاف الأتباع.. وفوارق الثقافة بين الأجيال، وقلّة مصادر سلفنا القريب: فارق مؤثر بلا ريب، وكانوا يقولون (من تمنطق تزندق)، وهي مقولة خرقاء رعناء، ولكن ليس المنطق هو منطق أرسطو الذي كتبه لعلاج أغاليط معيّنة، بل المنطق الحذق الجيّد لنظرية المعرفة التي من ثمارها دور العقل في المعرفة، والحذق الجيّد لنظرية المعرفة ومصادرها: يعني في النهاية الإيمان القوي بأنّ ما جاء خبره عن الله تعالى بالنّصّ القطعي دلالةً وثبوتًا: هو مصدر الحقيقة.
قال أبو عبدالرحمن عن نصيب المبدعين: إذا ذكرني المفلسون من الشباب قالوا: إنه تراثي جاحد غير مبدع، وإذا ذكرني ذوو التراث الصرف قالوا: إن في معارفه رخاوة!، وإذا ذكرني الإداريون الذين قبرهم الروتين قالوا: ليته يكتب شيئاً يفهم نعرفه دون خلفية ثقافية!، وهؤلاء يريدون علماً بدون تعب، ودون هذه الأمنية خرط القتاد!، والمدعون الإنصاف يقولون: إن فقد أسلوب هذا الظاهري جمال البلاغة لم يفقد جلال اللغة! ومشايخي وزملائي الذين جثوا معي على الركب لا يذكرون إلا هذلي ولا يكادون سامحهم الله يذكرون أعاجيبي التي تبارك العمر وتزكيه!، وكل ما ذكرته هو من الظلم العبقري والبهتان الجلي.
قال أبوعبدالرحمن: أسأل الله سبحانه وتعالى الثبات على علم نافع خالص لوجهه الكريم، وأن يجعل فيما استبحته من ملح الثقافة، وما تسرب إليّ من اللمم نصيبا من خلوص النية، استئلافاً لنفوس بعض المثقفين ليشاركوني في الاهتمام بعزائم الأمور، فإنّ النفوس تصدأ كما يصدأ الحديد..وقد رسمت المنهج لكثير من أعمالي العلمية والأدبية ليقدر على إتمامها من يعنى بها من ذريتي وأحبائي من طلبة العلم إن ودعت الدنيا قبل إكمالها، أسأل الله تعالى أن يحيينا وإياكم حياة سعيدة مديدة تكسب عملاً صالحاً بالعلم النافع تعلماً وعملاً وتعليماً إلى أن نلقى الله وهو راضٍ عنا، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
وكتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عنّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -