أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
كانت لـ(المها) في الشِّعر العَرَبي صُوَرٌ نمطيَّة، تتكرَّر عناصرها. وما يهمُّنا منها هاهنا جوانبها الجَماليَّة. والشُّعراء عادةً يدخلون إلى تصوير ذَكَر المها (الثور الوحشي) بتشبيه (الناقة) به، فإذا هم ينطلقون في تصويره إلى ما شاؤوا؛ فيَصِفُون مَظهره، وحركته، ثمَّ صراعه مع (كِلاب الصائد) عند الإصباح. من ذلك قول (ابن مُقْبِل)(1)، مثلًا:
تَـبَوَّعُ رِسلًا في الزِّمـامِ كما نَجَا
أَحَمُّ الشَّوَى فَرْدٌ بِأَجمادِ حَوْمَلا
كأنَّ حِبالَ الرَّحْلِ مِنهـا تَوَشَّحتْ
سَـراةَ لَياحٍ أَكْلَفِ الوَجْهِ أَكْحَلا
تُساقِـطُ رَوقاهُ بِكُلِّ خَمِيْـلَةٍ
مِنَ الرَّمْلِ كُرَّاثًا طَويلًا وعُنْصُلا
ففي هذه الصورة يهتمُّ الشاعر بسواد القوائم، والوجه، وبياض الظهر، وكَحَل العينَين. وقد تكون لملامح المظهر الخارجيِّ هذه قيمةٌ رمزيَّةٌ لدَى الشاعر، تتَّصل بعلاقة الثور الأُسطوريَّة بـ(القمر) المقدَّس، حتى لقد عُرِف القمر بـ(ثور).(2) غير أنَّ الجانب الآخَر من الصورة- وهو الجانب النفسي، المتمثِّل في: قلق الثور، وانفراده- يبدو هو الغالب على الصُّورة. ولعلَّ ذلك يمثِّل قلق الناقة، أو بالأحرى قلق صاحبها؛ لأنَّ الثور الوحشي في صورته النمطيَّة الجاهليَّة يمكن أن تُرى فيه رمزيَّةٌ للرجل (أو للذُّكورة) تتصل بالقمر، كما أمكن أن تُرى في (المهاة) رمزيَّةٌ للمرأة (أو للأُنوثة) تتصل بـ(الشمس).(3)
ومن هنا يتضح أنَّ المدخل إلى تفهُّم جَماليَّة الصُّورة في هذه الأبيات، وما ماثلها حول (الثور الوحشي)، يَلزم أن يكون ميثولوجيًّا؛ لأنَّ ذلك من الأُسس - إنْ لم يكن هو الأساس- التي بَنَى الشاعر عليها جَماليَّات الصُّورة.
والشاعر، من جهةٍ شكليَّة، يحرص على تناغم الألوان في صورته: أَحَمُّ، لَياحٌ، أكْلفُ، أكحلُ. وكذلك يُعنَى بالتوزيع المساحيِّ للألوان، والأبعاد التناسبيَّة بينها: أَحَمُّ الشَّوَى، سَراةُ لَياح، أَكْلَفُ الوَجْه، أَكْحَل: (أي: أَسْود القوائم، أَبْيض الظَّهر، لون وجهه ضاربٌ إلى السواد، أَكْحَل العَينين). غير أنَّ هذا لا يكشف عن رؤيةٍ جَماليَّةٍ شكليَّة، بمقدار ما يَحْمِلنا على تلمُّس رمزيَّات الحيوان المقدَّسة عند الشاعر، ممَّا يدور حول (القَمَر)، الذي يُشْبِه- ببياضه، وكَلَفِ وجهه- (الثورَ الوحشي)، ثمَّ حول الرَّجُل الذي يُشْبِهُه بكفاحه، وقلقه، وشَبابه. لذا يقول في أبياتٍ أخرى- بعد أن شبَّه المرأة بـ(المهاة: البقرة الوحشيَّة)-:
رَبِيْبَةُ حُرٍّ دافعتْ في حُقُوفِهِ
رَخاخَ الثَّرَى والأُقْحُوانَ المُدَيَّما
تُراعِي شَـبُـوبًـا فـي المَـرادِ كَـأَنَّـهُ
سُهَـيْـلٌ بَـدا فـي عارضٍ مِن يَـلَمْـلَما
تَـظَـلُّ الرُّخامَـى غَـضَّـةً فـي مَـرادِهِ
مِن الأَمْـسِ أَعلـَى لِيطِـها قد تَهَـضَّـما
حَشا ضِغْثَ شُقَّارَى شَراسِيفَ ضُمَّـرا
تَـخَـذَّمَ مِـن أَطْـرافِـهـا ما تَـخَـذَّمـا
يَـبـيـتُ عَلـيهـا طـاوِيـًـا بـمَـبـيـتِـهِ
بِـما خَـفَّ مِن زادٍ وما طـابَ مَطْـعَـما
يَـظَـلُّ إلى أَرطـاةِ حِـقْـفٍ يُـثِـيرُهـا
يُكَـابِـدُ عَـنـهـا تُـرْبَهـا أن يُـهَـدَّمـا
يَـبـيـتُ وحُـرِّيٌّ مِـن الرَّمْـلِ تَحْتَـهُ
إلى نَـعِـجٍ مِـن ضائِـنِ الرَّمْـلِ أَهْـيَـما
كَـأَنَّ مَجـوســيًّـا أَتـَى دونَ ظِـلِّـهــا
ومـاتَ النَّـدَى مِن جانِـبَيـْهِ فَأَضْـرَمـا
غَـدا كالفِرِنْـدِ العَضْبِ يَهْـتَـزُّ مَتْـنُـهُ
مِـن العِـتْـقِ لَـولا لِـيْـتُـهُ لَـتَـحَـطَّما
تُـوَرِّعُــهُ الأَهـوالُ مِن دُونِ هَـمـِّـهِ
كما وَرَّعَ الرَّاعِـي الفَـنِـيـقَ المُسَـدَّمـا(4)
فهو ثورٌ شابٌّ، كأنَّه (سُهيل)، يبيت قانعًا بما قلَّ من زاد، يظلُّ يُكابد الرِّمال- ليُهَيِّئ لنفسه كِناسًا- عند أصول شجر (الأَرطَى). وكأنَّه مجوسيٌّ عليه يَلْمَق أبيض، أضرم النار عند انقطاع المطر، ذلك الانقطاع الذي يُشخِّصه في «موت الندى». ثمَّ يغدو (الثَّور) كالسَّيف مَضاءً، تُورِّعه الأهوال من دون همِّه. وصورته تَكتسب تعاطف القارئ وإعجابه؛ لهذه الروح الإنسانيَّة التي بعثها الشاعر فيها. تلك الروح من الأَنْسَنَة المنبثقة عن البُعد الرَّمزي الذي يمثِّله (الثور الوحشي) في مخيِّلة الشاعر؛ بحيث أرانا فيه صورة الإنسان، بكلِّ جَماليَّاتها الحسيَّة والمعنويَّة: شابًّا، مُنيفًا كنجم (سُهيل) على جبل (يَلَمْلَم)، قنوعًا، مكافحًا، لا تهزمه الشدائد، ماضيًا في سبيله، كالسَّيف، أو كالفَنِيْق (الفحل من الإبل)، برغم الأهوال من حوله. والقِيَم الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة تتحكَّم في جَماليَّات الصُّورة هاهنا بعنفوانٍ وفعاليَّة؛ لأنَّه يتعيَّن أن تليق الصُّورة في النهاية بالإنسان الذي ترمز إليه. ومن ثَمَّ يقول الشاعر في صُورةٍ أخرى:
يَـظَـلُّ بـهـا ذَبُّ الـرِّيــادِ كـأَنَّــهُ
سُـرادِقُ أَعْـرابٍ بحَـبـلَينِ مُطْـنَبُ
غَـدا ناشِـطًا كالبَربريِّ وفي الحَـشا
لُعـاعـةُ مَـكْـرٍ في دَكـادكَ مُـرْطِـبُ
تَحَـدَّرُ صِبْـيانُ الصَّـَبا فَوْقَ مَـتْـنِـهِ
كـما لاح في سِلْـكٍ جُـمانٌ مُـثَـقَّــبُ
لَـياحٌ تَـظَـلُّ العائـذاتُ يَسُـفْـنَهُ
كَسَوْفِ العَذارَى ذا القَرابةِ مُنْجِبُ(5)
والعلاقة الشَّبَهيَّة الشكليَّة بين (الثور الوحشي) وسُرادق الأعراب تبدو واهية، لكنَّ العلاقة وثيقةٌ من جانبها المعنويِّ الرمزيِّ، الذي يمثِّله الثور الوحشي في الشِّعر الجاهلي؛ من حيث إنَّ الإنسان الجاهليَّ- أو الرَّجُل بالتحديد- هو «ذَبُّ الرِّياد» المقصود في مثل هذه الصورة، إذ لا يستقرُّ في مكان، بل هو رحَّالٌ في طلب الماء والكلأ(6)، إلَّا أنَّه كالسُّرادق يحنو على أهله. تمامًا كما يصوِّر رمز المرأة (الشمس) بقوله:
ولِلشَّمسِ أسبابٌ كأنَّ شُعاعَها
مَـمَدُّ حِبالٍ في خِباءٍ مُطَـنَّبِ(7)
وهو (أبٌ)- كما كانوا يَدْعُون (القمر)(8)- مُنْجِبٌ، علاقته بالأُنثى علاقة وُدٍّ حميمة وإخصاب. ولا ينسى أن يصف بياضه: (لياح)، ونشاطه، وقناعته بزهيد الزاد.
وهكذا تَظهر جَماليَّات الرَّجُل الجاهليِّ- بهيئته من: البياض، والشباب، وبخُلقه من: الفروسيَّة، والكفاح، والقناعة، والأُبوَّة، والتَّبَعُّل، إلى غير ذلك من مقاييسه الجَماليَّة عند العَرَب- في صورة (الثور الوحشي)، ممَّا يؤكِّد إيغال تلك الصُّورة في رمزيَّتها إليه في الشِّعر الجاهلي، كما تجلَّت في هذه النماذج.
[للحديث بقايا].
- -
(1) (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 213/19- 21.
(2) يُنظَر: علي، جواد، (1973)، المفصَّل في تاريخ العَرَب قبل الإسلام، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 6: 163- 000.
(3) ويُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهلي والإسلامي (دراسة تحليليَّة نقديَّة)، (جازان: نادي جازان الأدبي)، 657- 662.
(4) ابن مُقْبِل، 284- 286/ 6-15.
(5) م.ن، 21/38- 41.
(6) يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (رود).
(7) ابن مُقْبِل، 9/3.
(8) يُنظَر: علي، جواد، 6: 163- 000.
** **
- (رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا - الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)