د.محمد الدبيسي
..، وبُعَيدَ سنين قلائل من قيام الطيب الأنصاري بالعمل مدرِّسًا في المسجد الشريف، اختاره الشيخ أحمد الفيض آبادي (ت1358هـ) مؤسِّسُ مدرسة العلوم الشرعية والقَيِّمُ على أمرها، ليكون مدرسًا ورئيسًا لهيئة التدريس في المدرسة. فرأى الشيخ الأنصاري في ذلك اسنادًا لدوره العلمي في المسجد الشريف، يُعضِّدُه بمزاولة التعليم المؤسَّسِي المُنَظَّم، في مدرسةٍ أَشْرَع مؤسِّسُها أبوابَها لكل راغبٍ في العلم، صالحٍ له من أي جنس ٍكان.. من أبناء المدينة المنورة، ونزلائها وأيتامها والمجاورين بها. فكانت نعمة الله التي أفاء بها على أيتام البلدة الطاهرة وأهلها، وخصَّ بذلك الفضل آل الآبادي، بأن قدَّرَ لهم القيام على هذا العمل النافع العظيم، وهيأ لهم أسبابه.
وكان للمدرسة دورها المشهود في محو الأُمِّيَّة، ونشر العلم. وكذا دورها في وضع أُسس التعليم الفني والصناعي في المدينة المنورة، ونشر ثقافة التضامن المجتمعي، والرعاية الشاملة للطلاب، وبناء شخصياتهم العلمية بجدٍّ والتزام.
وهي أدوارٌ عظيمةٌ لم تغب عن ذهن وبصيرة الشيخ الطيب الأنصاري، الذي انخرط في سلك التعليم بالمدرسة، وقام بتلك المُهمَّة الجليلة، والعمل التعليمي والتربوي خير قيام.
ولمَّا شاع أمر الشيخ وذاع، وتكاثر حوله التلاميذ، وطلاب العلم والاتباع، وتنبَّه المجتمع المدني لعلمِه الغزير وشأنه الكبير، وتعمَّقت تجربته وتعاظمت شهرته، وفتح الله عليه فُتُوح العارفين، وأصبح علَمًا مستنيرًا، في سلوكه مُعتبَر ومُتأمَّل، وفي سيرته وسَمْته مواطن للتقدير وحُسن الاقتداء؛ فحاز بذلك قبولًا ورضىً، ونال مكانةً، واكتسب تجربةً ودرايةً عميقةً في قضايا العلم ومسائل المعرفة، وأُصول التربية والتعليم، وفنونهما.
حتى استثارت تلك المكانة العلمية العليَّة، والسِّيرة الشخصية النَّديَّة؛ حسد الحُسَّاد، الذين وشَوا به ونالت ألسنتهم من سِيرته. فلم يُثنه ذلك، ولم يفتَّ من عزيمته، واستمر على نهجه، مُتسلِّحًا بصدق التوكل على الله، وثقته بنفسه، وإخلاصه لعلمه؛ فاستنار بعلمه الجهلاء، والتفَّ حوله المخلصون، وغير المخلصين، والأقوياء والضعفاء، وأبناء الأفندية والموسرون، وأبناء العامَّة والدَّهماء، والفقراء والغرباء، وأهل المدينة، وزائروها. وتعلَّمَ على يديه طلاب المعرفة ومحبُّوها، ونالوا من علمه وعطفه ورعايته ما نالوا..، وتخرَّجَ على يديه العلماء والأدباء، والقُضاة والفقهاء. وجميعهم يُدينون بفضله، ويلهجُون بذكْرِه، ويردِّدُون شكْرَه.
وظلَّت رسالة العلم قضيَّته، فكان رسولها المُبلِّغ الأمين، بعقلٍ زاخرٍ بالعلم، وقدرةٍ معرفيةٍ فذَّةٍ، وصبرٍ وجَلَدٍ، ونَفْسٍ مطمئنة، نزَّاعة للمعالي في العلم والتعامل، وقلبٍ مُترع باليقين بالله.
إلى أن انطوت سنين حياته سريعًا، يُتمٌ وجهادٌ، وكفاحٌ واغترابٌ، فهجرةٌ وعَوْدٌ وسكنٌ وسكينةٌ، وبناءٌ وإنماءٌ، وصبرٌ وإيمانٌ؛ حتى وافاه أجله راضيًا مرضيًّا في داره بالمدينة المنورة، (صباح يوم الاثنين، السابع من شهر جمادى الآخر، عام 1363هـ).
الطيب الأنصاري المُدرِّس بالمسجد النبوي الشريف:
ولا بأس أن نعرض لهذه المرحلة من مراحل المسِيرة العلمية للطيب الأنصاري -وهي الأهَمُّ ولاريب- بحديثٍ وجيزٍ عن واقع الحياة العلمية في المسجد النبوي الشريف، في مُدَّةِ أوائل القرن (الرابع عشر) الهجري إلى منتصفه. وقد أسلفنا الحديث عن شيوخ الطيب الأنصاري الذين لقِيَهُم في المسجد النبوي خلال تلك المُدَّة، وكانوا من صفوة علمائه، وخاصَّةً المُبرزين الذين أخذ عنهم الأنصاري وغيره العلم، وزاملهم في التدريس في المسجد النبوي.
وكان ثمَّة علماء آخرون انعقدت بينه وبينهم آصرة المُزاملة في العلم، والصُّحبة في المكان المقدس، ويعدَّون من أجلَّة العلماء، الذين حَفَلت كتب التراجم والمشيخات بسِيَرهم العلمية، تسجيلًا لدورهم ورصدًا لمسيرتهم العلمية، ومفخرةً لهم بارتباط نشاطهم العلمي بالمسجد النبوي الشريف. وبمكانتهم العلمية تتكَشَّفُ جوانب مُهمَّة من الحياة العلمية في المسجد الشريف.
ومن أولئك العلماء، الشيخ محمد العائش (ت1364هـ =1945م)، الذي تلقَّى تعليمه على أيدي صفوة علماء البلدة الطاهرة، ودَرَسَ عليهم دراسة تأصيليَّة عميقة في علوم الشريعة، واللغة العربية وأُصولهما، وألَّفَ كتابًا في (علم القراءات)، وثانٍ في (الحجِّ على المذاهب الأربعة)، وثالثٍ في (تبسيط قواعد النَّحو) وضعه على أحدث الطرق التربوية، بالأمثلة والشواهد والتمارين والتطبيقات. كما صنَّفَ (موسوعة في علم الفرائض)، الذي كان بارعًا فيه، متقنًا مسائله الدقيقة.
وقد ترجم له محمد سعيد دفتردار، وأشاد بعلم ه، ونوَّه بمكانته بين علماء المسجد النبوي، ولعلَّه أدرك بعض دروسه، ومما قاله فيه: «وكان بارعًا في إلقاء الدروس، يعرف كيف يجعل من طلابه علماء، فهو لا يترك مسألةً حتى يقرأها تلاميذه، وكان يُدرِّسُ في المسجد والمنزل. وقد يأخذ تلاميذه إلى قضاء النهار للفسحة في بعض بساتين المدينة، وهناك يلقي دروسه عليهم، وقد يبلغ ما يلقيه في اليوم الواحد عشرة دروس» (محمد إبراهيم الدبيسي، أعلام المدينة المنورة لمحمد سعيد دفتردار، مقدمة ومختارات، ص223).
ومن العلماء الذين ذاع صيتهم في تلك المُدَّة، وانعقدت بينهم وبين الطيب الأنصاري صِلاتٌ علميةٌ، ورابطةٌ أخويةٌ: العلَّامة عبدالقادر بن توفيق الشَّلَبي الطرابلسي (ت1369هـ =1950م)، سليل أُسرة العلم والفضل الطرابلسية اللبنانية، الذي أفاض زكريا ابن بيلا في ترجمته في كتابه (الجواهر الحِسَان)، كما لم يفعل مع غيره من العلماء؛ إكبارًا لقدره، وعلمه ومكانته. وقد قَدِمَ المدينة المنورة عام (1320هـ) مُهاجرًا من لبنان، التي تلقَّى تعليمه على أيدي نفرٍ من كبار علمائها، ونال إجازاتهم. ثمَّ ازداد علمًا على أيدي علماء المدينة المنورة بعد قدومه إليها، حتى حاز مرتبةً عليَّة في العلم هيَّأته ليكون من مدرسي المسجد النبوي. ثمَّ تولَّى مُعتمديَّة المعارف بالمدينة المنورة حين حُكْم العثمَّانيين لها، ثُمَّ صار أول معتمد للمعارف في عهد الدولة السعودية.
كما عهد إليه الملك المؤسِّس الراحل عبدالعزيز آل سعود، أمر تجديد الخطوط القِبْلٍيَّة في المسجد النبوي الشريف، وذلك لسَعة علمه ودرايته العميقة بفنون الخطِّ العربي وأنواعه، وكان أُستاذًا علَّامةً في هذا الباب.
أمَّا حلقة درسه في المسجد النبوي فيصفها ابن بيلَّا، بقوله: «ولما استقرَّ حضرة الشيخ بطيبة الطيِّبة، وهدأَ خاطره بمُنيَتِه؛ أخذ كعادته في نشر العلوم في المسجد النبوي الشريف، بتوجُّهٍ لا يتدانى ولا يوصف، وحرصٍ زائدٍ لا يتكيَّف. وكان يحضرُ دروسه لفيفٌ من طلبة العلم من أهل البلاد، ومن الطلبة الذين يفدون إليها لقصد التحصيل. وفي بعض الدروس يحضر بعض العلماء والأعيان والفضلاء، وكان يفيض عليهم من مكنون علمه، ويُريهم من آيات فنونه وعلومه، فأقرَّ له أولئك بالحذق والعرفان، والجودة والإتقان» (زكريا بن بيلا، الجواهر الحِسَان 2/686).
ثمَّ أورد ابن بيلا أسماء (ثلاثين) من تلاميذه، الذين صاروا من علماء المدينتين المقدستين، ومنهم نفرٌ من أدباء المدينة المنورة وعلمائها، ومن تلاميذ الطيب الأنصاري.
ويعدُّ العالمان الجليلان: العائش..والشَّلبي؛ مثالًا على واقع الحياة العلمية في المسجد النبوي، في القرن (الرابع عشر) الهجري، التي فصَّل الباحث ناجي الأنصاري، واستفاض في الحديث عن أحوالها وأعلامها في دراسته الرَّائدة في موضوعها: (التعليم في المدينة المنورة من العام الهجري الأول إلى 1412هـ)، ومن ذلك قوله: « كان المسجد النبوي الشريف في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، كما هو حاله في جميع العصور مَورِدًا لطلاب العلم ومثابة للعلماء، يُطبِّق نظامًا تعليميًا من أرقى الأنظمة التعليمية. ويزيد عليها في عدة أمور، منها: أنَّ المدرس لابد أن يجتاز مقابلةً علميةً يُجريها له كبار علماء المسجد، ويزيد عليها أنَّ الهيمنة الإدارية تكاد تكون مفقودة على الطالب والمدرس، وأنَّ المدرسين والطلاب كانوا كلهم من مختلف البلاد الإسلامية» (ناجي الأنصاري، التعليم في المدينة المنورة ص315).
- (يتبع)