د. حصة المفرج
اسم المؤلف عتبة مهمة، وعلامة فارقة بين مؤلِّف وآخر، وإليه ينتسب الكتاب، وبه يضمن حقوق ملكيته، ثم يرتبط بالمتلقي، وتعدد قراءات النصوص؛ بتعدد مؤلفيها، ولا يمكن إنكار دوره في توجيه أفق المتلقي عند الاختيار، والشروع بالقراءة، ثم اختتامها.
ويتخذ اسم المؤلف عادة ثلاثة أشكال: إما أن يكون اسمًا حقيقيًّا، وهو الشكل الأكثر انتشارًا، أو مستعارًا، أو مجهولًا. ومن بين هذه الأشكال، يحظى الاسم المستعار بحضور مهم على مستوى الكتابات الإبداعية، والتجارب في ذلك كثيرة، سواء أكانت على المستوى العالمي أم المستويين العربي والمحلي.
وتتنوع الأسباب التي تدعو إلى استعارة الاسم، وقد يرتبط بعضها بأبعاد الهدف منها إخفاء الهوية الجندرية لاسيما
للأنثى الكاتبة؛ طمعًا في أن تنتشر كتاباتها لكون كاتبها رجلًا، أو حتى العكس في بعض الحالات، أو الرغبة في إخفاء الهوية العرقية؛ لمساعدة الكتّاب على تجاوز عقدة انتماءاتهم العرقية، وقبولهم في الأوساط المهيمنة ثقافيًّا في حالات أخرى.
ولعل تجربة الناقدة اللبنانية (يمنى العيد) في هذا المجال تجربة مختلفة من جهتين: ارتباط الاسم المستعار بالكتابات النقدية، وظهور الاسم الحقيقي في الكتابات الإبداعية السيرية؛ فهذا الاسم الذي عرفت به نقديًّا على مدار سنوات طوال، نجده ينكشف في نصين من سيرتها الذاتية التي امتزجت بالسيرة الروائية (أرق الروح، وزمن المتاهة) ويحضر داخلهما، وكأن الذات حين تكتب عن نفسها، تتحرر من سطوة الاسم المستعار، وتأبى إلا أن تكتب باسمها الحقيقي، أو تصرح به داخل المكتوب، بينما يحتفظ الغلاف بالاسم المستعار. كما أن يمنى لم تعتمد اسمًا مستعارًا غير محدد الهوية أو اسمًا لرجل، بل اختارت ما يطابق هويتها الأنثوية؛ متخلية عن اسم حقيقي ذي هوية مزدوجة (حكمت) الاسم الذي تسمت به عند الولادة، وظل في بطاقة الهوية، بعيدًا عن عالم النقد، ومع مرور الوقت تحول الاسم المستعار (يمنى العيد) إلى اسم ذاتي، أقرب إليها من الاسم الحقيقي.
«هل أنا حكمت أم أنا يمنى؟» هذا السؤال لم يفارق سيرة (أرق الروح) على صفحاتها كاملة، ومنه تشكلت أحداثها، كما أن التداخل بين الاسمين شكل لدى الكاتبة التباسًا في الهوية وهو ما عبرت عنه في (زمن المتاهة) «كنت أعاني قلق الهوية، الهوية التي أعطيت لي والهوية التي اخترتها لذاتي.. ليمنى» بين (حكمت الصباغ) اسمها الذي لم تكن تحبه، ولا يعجبها معناه؛ لأنه يحمل وهمًا بالذكورة، وتضيق بحروفه «رحت أتمنى اسمًا بلا هذه الكاف التي تعلق في حلقي، بلا هذه التاء الساكنة التي كانت تبدو لي مثل علامة وقف لجسدي الأنثوي.. ما أعرفه أني كنت أنفر من ذكورة يوحي بها اسمي، فيظن من لا يعرفني ويسمع، أو يقرأ اسمي، بأني ذكر)). و(يمنى العيد) الاسم الذي كان عنوانًا لتجربتها النقدية.
يمنى وحكمت، اسمان في جسد واحد وروح واحدة، تكتب كل منهما الأخرى، وإذا كان اسم حكمت ارتبط بفترات عصيبة تشكل ماضيها، فإن يمنى أصبح أكثر انعتاقًا نحو الحرية، والتخلص من الماضي الأليم «هربت من حكمت إلى يمنى، تركت مدينتي بحثًا عن أفق. أريد أن أتحرر من ذلك الماضي». والكتابة باسم (يمنى) وهو اسم عربي فيه صفة تأنيث أصيلة، هو انتصار لمرحلة جديدة تحقق فيها الأنثى وجودها؛ إذ يبدو الانتصار مقترنًا بالاسم الأنثوي الذي يحمل معنى اليمن والسعادة على الاسم الذكوري حكمت الذي يتضمن معنى الحكمة، وربما يرتبط بنسق ثقافي يربط بين الرجل والحكمة، ويجرد المرأة منها. وهو ما نلحظه مسطرًا على صفحات السيرة في جزأيها. كما أن محو الاسم هنا مؤشر على محو كل ما يقترن به ابتداءً من التسمية الذكورية التي كرهتها، وكان الأب سببًا فيها، تعويضًا عن الأخ المفقود (عبدالحليم)، إضافة إلى الذكريات التي اقترنت بهذا الاسم، ثم سيطرة أخيها المصاب بعقدة الذكورة لاحقًا.
هذا التحول بين الاسمين ينطلق من الهوية اللغوية الاسمية إضافة إلى الهوية الاجتماعية والثقافية التي اقترنت بهذا التحول من جهة، والصراع بين الاسمين الذي يتيح لكل منهما التداخل مع الآخر في صورة منسجمة تحقق بناء السيرة الذاتية بين الماضي والحاضر «حكمت زمن مضى، لكنها داخل يمنى تطرح اليوم أسئلتها عليها وتوقظ ذاكرتها بزمن لا يغادر الذاكرة... وربما هي يمنى تعود من زمن حاضر إلى حكمت لتسلط أضواءها الكاشفة عليها»
وتحضر يمنى الأكاديمية والناقدة في مواضع مختلفة من السيرة» أود أن يصبح طلابي قادرين على ممارسة النقد... وفيما كنت أعد طلابي ليكونوا قراء نقديين، كنت أسير نحو يمنى». وهذا التداخل يعكس حضور المؤلف ويتجانس مع واقعية السيرة الذاتية؛ فالكاتبة ناقدة قبل أن تدخل مجال الكتابة الإبداعية بكتابة سيرتها الذاتية.