د. شاهر النهاري
تتوالى على حوافظ ذاكرة البشرية المكتشفات الفلكية الجديدة تباعاً منذ أن أصبح على وجه الأرض مراصد عملاقة، وبعد أن خرجت التلسكوبات الحديثة مثل «هابل» و»جيمس ويب» إلى خارج الغلاف الجوي للكرة الأرضية، إضافة لعدد كبير من المراكب الفضائية ومسابير الذكاء الاصطناعي تعدى بعضها حدود المجموعة الشمسية، ويتجه بعضها لعين الشمس الملتهبة، في دراسات وقياسات قمم المستحيل، وبالتالي فإن نتاج رحلات سبر مجاهل الكون مستمرة وتنهال علينا بالمعلومات الأكثر من عجيبة.
وفي يوم الجمعة 12 مايو 2023 أعلن علماء من جامعة ساوتهامبتون عبر البي بي سي، عن اكتشاف ورصد انفجار كوني هو أكبر ما تم تسجيله على الإطلاق، متمثلاً بكرة طاقة نشطة تفوق في حجمها كامل نظامنا الشمسي بمئة مرة، كانت قد اشتعلت قبل ثلاث سنوات ولا زالت هالتها في عز وهجها، وقد تم نشر الدراسة في مجلة «مَنثلي نوتيسس» الشهرية التابعة للجمعية الملكية الفلكية البريطانية.
وتلك ليست إلا واحدة من اكتشافات لا يمكن الإلمام بكامل تفاصيلها، وفيها مما لا يفصح عنه في حينه فيترك سراً للمستقبل بين المتنافسين على امتلاك الفضاء معلومةً وعلماً، وفي كل يوم يستجد اكتشاف جديد، وعمق أبعد، ودهشة أكثر بعداً وعجباً، في عمر الإنسان الحالي القصير، والذي يتحدى ويسابق ما تم جمعه من معارف فلكية طوال أعمار الشعوب القديمة بأسرها.
وكانت المراصد قد صورت أعظم وأعجب وأوضح الصور والمقاطع والتحليلات الفلكية خلال السنوات الأخيرة، فرأينا بعض حقائق السدم والثقوب السوداء تبتلع المجرات، ورصدنا عمالقة النجوم، وانفجارات نجمية، وسوبر نوفا، وأحطنا بمزيد من المجرات، وأعمدة الفضاء، والغبار الكوني، وكواكب سيارة تشابه وجود أرضنا وسط مجموعتنا الشمسية تدور حول نجوم تشابه شمسنا، وهنالك احتمالات قوية بوجود الحياة عليها، واكتشافات غيرها مما يحير به الفكر، ويتقزَّم معها كل تخصص وسبق ومحاولة ترقي.
طبعاً فقد لاحظتم أنني أستخدم ضمير الملكية في مقالي وبضمير نا، بمشاعر الأديب النرجسية، من يعتقد أنه مركز الكون، ويعبر عن مرئياته بكينونة عموم البشر، وكأن ذلك بين يديه، وأنه يقينه الذي يجاري به أكبر علماء هذا المجال الفلكي، الذي تبحث البشرية من خلاله عن خرم إبرة يسمح لنا بالنفوذ من خلاله إلى أبعاد صوف وقطن وحرير يتهتك جانباً منها ويربط جوانب، وسط تغور وتشعب علمي عظيم يسمح لنا برؤية شبه حقيقية لوضعنا المتخيل بقدراته المتنامية على الاستيعاب، وبفلسفة وقياسات وتقنية وطموح واستبانة وتحقق وشغف نطلقها من وسط مجموعة شمسنا الزرقاء المتمثلة بهباءة كونية تدور وسط رياح صحراء من الأبعاد والكثبان والعجب.
فهل ما نشاهده ونرقبه بأعين عدسات ذكاء صناعات البشر في أبعاد البعد منفصلاً أو متصلاً عنا، حياً أو ميتاً بنا وفينا، طاقة كامنة أو مادة صلبة، كينونة انجذاب، أم مسارات أوتار، وهل ما يربط بين الأفلاك والمجرات مجرد مادة غير ملموسة سوداء، أو حسابات، أو طاقة كمية أو حركية أو كهربائية أو أسموزية، أو مغناطيسية أو حرارية، أو كيميائية، أو نووية، أو أنها أثير فراغ كما كان يعتقد، أو أن نظرية أوتار أينشتاين العنكبوتية المتحكمة بالجاذبية والبعد والزمان هي حقيقة ومهد ما يحتوينا، أو أن خلف كل بعد ضوئي بمليارات السنوات الضوئية أبعاداً أخرى لا يمكن أن تجعلنا نقول في يوم من الأيام: نعم، لقد وصلنا، ووجدنا، وفهمنا كامل الصورة والمسافات والزمان والحركة والطبيعة والكيان.
الفيروس لا يمكن أن يحيط بكنه كبد الإنسان، حينما يصبح جزءاً منه.
هل سنرتاح، حين لا تعود الدهشة تحملنا على صواريخ الطموح بالخروج من هباءتنا، إلى هباءات أبعد وأعظم، وهل نحن قادرون على تمييز الأخطار، وتشويش الصورة، وانفجار الشاشة، وهروب النمل على إطار من الخوف والمصير المجهول، «لاحظوا غروري المستمر باستخدام أسلوب الأنا».
عين إنسان وكم أشطح في أفكاري، وأتمنى لو كان مجال دراستي في الفلك، تلك البداية لكل نهاية، فكم أشعر أن الكيان واحد مهما توزع، ومهما زادت تعرجات غموضه ومهما بعدت حروفه عن شفاه تهجئتنا.
لست مجنوناً، وكم أيقن بضرورة الرجوع لبعض العقل السائد على بؤر نشطة فوق وجه الأرض، وأشطح بأننا مجرد فيروسات تسكن جزءاً من خلايا هذا الكيان العظيم، الذي لا يمكن الإحاطة به، ولا إثبات وجوده، وأن مرئياتنا مهما تحركت وتطورت، ومهما اكتشفت، وحاولت الربط، تظل قاصرة عن فهم كنه تنوع الأبعاد والخلايا المختلفة الوظائف والعصارات والحياة والموت من حولنا، وصعوبة تفسير التفاعلات الدموية واللمفية، والحسية، والدمعية، والغدية، والعصبية المحيطة بكينونتنا.
ويظل الفيروس يخترع أدواته وصواريخه ومسابيره الضخمة ويطلقها، ويقارن ويقارب، ويبدأ وينهي، حتى يتشرّب ويتفهّم قليلاً من عصارة الهرمونات المتهايلة من حوله، أو بؤرة التهاب بكتيري نشطة تحدث في المدى، أو فعل كريات الدم مع الصفائح الدموية، وهي تتفاعل مع مضاد حيوي تناوله الكيان الأكبر.
الوقت والزمان والمسافات، لا يمكن للفيروس أن يدرك حقيقتها، وحياته تنتهي بمجرد حقنة مضاد قوية فعَّالة، فلا يتمكن من تتبع تاريخ طفولة وصحة ووراثة ومرض وجوع وشبع وقوة وضعف وهرم للكيان، منتهياً بالزهايمر والخرف.
هل كلامي هنا تشجيع لجميع جهود البشرية في التعرّف والبذل أكثر على معرفة الكيانات والأبعاد، أم هو إحباط ومحاولة تقزيم وثني للعزائم عند المفكرين والعلماء والصنَّاع، والتقنيين ودارسي الجينات، والذكاء الاصطناعي، وعلماء التاريخ والجيولوجيا والمناخ والفلك؟
وبفعل الأنا أجدني أؤكد على أنه تحفيز لهم، ولنفسي، ولكل من يقرأ، ويتجشم دفعة قد تكون بمحرك جانبي، أو مجرد انسياب واستسلام للجاذبية، ولكنها دون شك تزيد من تفتح مداركنا، ويقيننا، بأننا قاصرون بكل جهودنا وتسابقنا وأفكارنا، فاعلون في تثبيت المعرفة، بشغف وإصرار على تجسيم صيغة الأنا، بين زائدة دودية، وبعض جوانب أمعاء، لكائن كوني، لا نستطيع تخيل أبعاد حدوده، ولا تحديدها.