حنان بنت عبدالعزيز بن سيف
( 1 )
فن التراجم الذاتية وحياكة السير الشخصية فن عربي الأديم, مشرقي الجلدة, وقد برع فيه الأقدمون فضلاً عن المحدثين, والسير الذاتية لها أنماط منها: الذكريات والمذكرات واللا مذكرات واليوميات, وكلٌّ ضارب فيها بسهم نافذ, فالفلاسفة لهم تراجمهم, والأدباء لهم سيرهم, ورجال الحرب والسياسة لهم وثائقهم, فابن الجوزي استطرد للحديث عن نفسه في كتبه الثلاثة المنتظم في تاريخ الملوك والأمم - وصيد الخاطر, - ولفتة الكبد, وأسامة بن منقذ بطل من أبطال الحروب الصليبية المغاوير تحدث عن نفسه حديث الملهم المغرم في مذكراته ( الاعتبار ), وتتابعت تحف الأعيان والإعلام فن من التراجم الذاتية, حتى استهل هذا الفن واستوى على عوده على يد أدباء العصر الحديث كطه حسين في الأيام, وأحمد أمين في حياتي والعقاد في أنا, وكتابة السير الذاتية فنٌّ ليس بسريع الانقياد, بل فيه إحجام واستعصاء وذلك لأن صاحبها يشحذ الهمة, ويوقد العزيمة, ويمتطي صهوة القلم, ويتنازل عن نزعاته ليكتب عن نفسه تحت ميسم الصدق والصراحة والبساطة وتحري الحقيقة, والسيرة التي بين يدي وهي: مالم تقله الوظيفة, صفحات من حياتي, لمنصور محمد الصالح الخريجي, تحكي مسيرة نصف قرن متطاول لرجل من رجالات الدولة السعودية الفتية, وهي لرجل أديب وتربوي ونائب لرئيس المراسم الملكية سابقاً في المملكة العربية السعودية ومترجم للملوك, فقد عاصر ملوكاً أجلاء متواترين وهم الملك فيصل وخالد وفهد وعبدالله - رحم الله الجميع - والكتاب يشدك من أول وهلة فتأتي على صفحاته الـ 366 صفحة من الجلسة الأولى, وهذا بعينه ماحدا بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز أن يقول لمؤلفه: ( أنا كنت أقرأ الكتاب وكتابك أعجبني وأنت تقول فيه بأنه لأولادك وأحفادك وكان لا بد أن تقول: إن هذا لأولاد المملكة كلها, لأنه كتاب ممتاز لما تضمنه من تجربة وعصامية ) ويقول أيضاً: ( جلست طوال الليل أقرأ كتابك هذا يامنصور, ولم أنم للحظة واحدة, وذهبت للمكتب بدون نوم, لأني جلست عليه من الساعة العاشرة مساءً إلى الساعة السابعة صباحاً, وذهبت للمكتب دون أن أنام ).
والكتاب كما حكى في مقدمة الطبعة الأولى منه: ( لا يعقد الكتاب مقارنة بين جيلين, أو بين عصرين, بل يسجل بعض لمحات من حياة إنسان عاش في زمنين متباينين أشد التباين, زمن بقي ثابتاً لم يتغير لقرون عديدة, عاش الناس فيه حياة متقاربة متكررة يتوارثها الأبناء عن الأباء, جيلاً بعد جيل, وزمن آخر غلبت عليه سرعة التغير والتقلب, وتتابعت في صفحات جديدة, وأحياناً عنيفة في كل مجال من مجالاته الفكرية والاجتماعية والصناعية وغيرها).
عاش الخريجي طفولة معذبة شابها عنصران فتاكان وهما اليتم والفقر, ( مات والدي وأكبر إخواني كان لا يزال ينطبق عليه وصف اليتيم, ولست متأكداً أن القارئ يستطيع أن يتصور ما يمكن أن سكون عليه حال اليتم في تلك الأيام العجاف, إذ يصعب على من لم يمر بالتجربة أن يدرك أبعادها وما تخللها من معاناة بسبب شظف العيش وضيق ذات اليد ), ولد المؤلف في بلدة ( القريتين ) وهي الواقعة بين دمشق وتدمر، وكانت أمه من المعجل والوالد هو أب من العقيلان ما بين عاش في سوريا خمسة عشر عاماً, امتهن مهناً عديدة حيث هجر الوطن ليسد رمق أطفاله, إلا أن الأوجاع تكالبت عليه فتوفي وهو على مشارف الأربعين تاركاً ولدين وبعد وفاة والده حدب عليه خاله ( محمد بن فهد المعجل ) ولم يكن أفضل حظاً من ابن أخته فكلاهما كانا في فقر مدقع, وعيش ضنك. كانت بدايات تعليمه في الكتاتيب وهو لا يذكر بداياته الأولى في تعلم القراءة والكتابة وغير أنه تعلم على يد المشايخ حتى ختم المصحف وأنهى الشهادة الابتدائية وكان خير معين مع شيخه في الكتاب على تدريس التلاميذ الآخرين ثم شاءت الأقدار أن يعود إلى مهبط رأسه حيث طيبة الطيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها يقطن الكبار من عائلة الخريجي, فهناك كان أعمامه من ذويه, وترك القريتين مع أمه وإخوانه, وعاش قصة العودة معهم في وطيس حام أشرفوا منه على الهلاك لو لا أيدي العناية الإلهية التي كتبت لهم النجاة وآل الخريجي كانوا على قدر من الثراء, حيث كان لهم قصور فاخرة يستقبلون فيها ضيوف المملكة في عهد المؤسس وابنه الملك سعود - رحمهما الله - واستقر ابن الثانية عشرة عند أعمامه فرحاً جذلاً بالحياة الجديدة والحال الهانئة مقارنة بما لذعه في بلدة ( القريتين ) من قهر اليتم وألم الجوع, وبدأ الصغير يتطلع إلى إكمال تعليمه والتي حال الفقر المدقع لأمه من توفير المال الذي يستطيع به إكمال تعليمه وشاءت له الأقدار على إتاحة فرصة له ليكمل تعليمه فحرز الشهادة الثانوية, والتحق بمدرسة تحضير البعثات في مكة, وكان لها تاريخ مجيد عميق, ثم حصل على منحة در اسية إلى أرض الكنانة حيث القاهرة ليكمل تعليمه في تخصص اللغة الإنجليزية, في القاهرة التي خلبته مفاتنها فشوارعها كانت تغسل بالماء والصابون, وعاصر علو نجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر ثم وكان الإياب إلى أرض الوطن مكللاً بشهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية, ثم تقلبت به الأيامقارعته الظروف, وتمخضت دنياه وعين بعدها معيداً في كلية الآداب بجامعة الملك سعود, وفي هذه الحقبة تزوج من ابنة عمه, وكان زواجاً ميمون الطالع, مبارك الفأل, ثم بعث ليكمل دراسته في نفس التخصص من جامعة تدعى جامعة ليدز, وتعرف في فترة تعليمه حينما كان في القاهرة أو بريطانيا على رفقة خلب منهم د. أحمد الضبيب ود. عبد الرحمن الأنصاري, ود. منصور الحازمي, ومن بريطانيا حدت به همته إلى الولايات الأمريكية المتحدة لإكمال الدراسة في جامعة نبراكسا, وفي زهاء عام 1964م شاءت الأقدار له أن يحرز درجة الماجستير, أما الدكتوراه فقد خذلته الظروف عن الحصول عليها, بسبب الشروط التعجيزية في نظام التعليم الأمريكي ولم يجتز امتحان التخرج فعاد إلى أرض الوطن كسير القلب وانضم إلى الجامعة وابتسمت له الأيام في عام 1968م ليعمل مترجماً للملك فيصل - رحمه الله - ومن بعدها عين نائباً لرئيس المراسم الملكية, وهنا نعرج على مرحلة مفصلية في حياته فبعد اليتم والفقر وكدح السنين أصبح مترجماً للفيصل وطاف معه أنحاء العالم وزار عواصم الشرق والغرب ثم عمل مع الملك خالد والملك فهد مايقارب من خمس وعشرين سنة, أي ربع قرن متكامل, ثم عاصر الملك عبد الله طالباً التفرغ والتقاعد إبان عام 2005م.
وبعد التفرغ شغل بطلب العلم والمعرفة وتثقيف النفس وتزكيتها فجادت موهبته بكتب منها ماتقع قراءته بين يديك - أيها القارئ الحصيف - ثم رواية «دروس إضافية» ورواية أخرى بعنوان: «ساعة الصفر» ثم أنتج كتابين وهما: ( كلام جرايد ) و ( من زاويا الذاكرة ) ثم ترجم رحلة المسشرق الدانماركي ماركي رونكيير الذي طوف الجزيرة العربية على ظهر جمل هذا وقد صقلت شخصيته مصاحبة الملوك فأبدع في وصف حياته معهم, كما رسم شخصية الملك فيصل ورسم عبقريته وصمته وخلقه, كما أشار إلى الملوك الذين تلوه - رحمهم الله أجمعين.
وفي عمله مع الملك فيصل كانت له مواقف ساخرة تطرب الفكاهة أمام الفيصل - رحمه الله - هذا وقد استقبل الكتاب استقبالاً حافلاً وهو عائد إلى التزام مؤلفه بكل الصدق والصراحة البسيطة: ( فقد أدركت أن العامل الرئيسي وراء ذلك التقبل السريع للكتاب هو ببساطة شديدة ليس أكثر من مجرد الالتزام بشيء من الصدق والصراحة البسيطة في سرد الأحداث بأسلوب الراوي، ولقد أعطاني ذلك شعوراً طاغياً بالسعادة ورضى النفس, ولا أقصد هنا انتشار الكتاب بالسرعة التي انتشر بها, وإن كان ذلك مما أسعدني وأرضاني, ولكنني أقصد أن الناس عامة لا تزال تتقبل الكلمة الصريحة الصادقة الخارجة من القلب وتتفاعل مع صدق الرواية وتتوحد مع المعذبين, الناس باختصار مازالوا بخير ) وفي مقام آخر يقول: ( عندما قررت تسجيل هذه الذكريات عن حياتي عزمت من البداية على أن أكون أميناً وصادقاً في ما أكتب, وعزمت أيضاً على ألا أكتفي بتسجيل ماوقع لي وللمقربين مني من حوادث, وصادفنا من مواقف, بل أن أتوسع في تسجيل بعض مشاعري وتفاعلات نفسي سواء ما مر منها سريعاً أو مر وئيداً وبقيت آثاره محفورة في خبايا النفس إلى الآن). وقد صورت هذه السيرة كلاً من القرية والبيئة والشارع والزمان والمكان والأشخاص والناس, وكان المؤلف ينقش أحداث حياته, وأحاديث عمره على صخور التاريخ العتية المستعصية الصلبة بكل مافيها من جدٍّ وصراحة وصراع وكفاح واستبسال وقوة, ثم ما ألم به من سني
ابتعاثه وزواجه وقدوم أطفاله من ضنك العيش, وقلة ذات اليد, والفقر الذي كان يعانيه ويمعن في وصفه هو: ( أرجو أن يفهم القارئ هنا أن ما أعنيه هو الفقر الحقيقي الذي يعاني من جرائه الناس ألواناً عديدة من الحرمان وعدم الحصول على الحد الأدنى من المعيشة الكريمة, الفقر الذي لا يجد رب الأسرة ما يقيم به أود أولاده, الفقر الذي يعيش الصغير تحت وطئه في حالة حرمان دائم فلا يتمتع يوماً بثوب جديد مثلاً ولا بقرش يشتري به ما تتوق إليه نفسه, ويعيش الكبير من جراء ذلك في غم دائم ), وقد أطرفنا المؤلف بالاسترسال في رسم فقره, وجوع ذاته, وصور أطواره العمرية, وخلجاته الحياتية من طفولة وصبا وشباب وكهولة وشيخوخة بكل ما فيها من فقر وغنى وكمال ونقص وكبير وصغير وقوة وضعف وواضح جلي ومبهم غامض, وقد غدت هذه الصفحات الحياتية لمنصور محمد الصالح الخريجي مذكرات بديعة, بغيضها وفيضها ومدها وجزرها وقد رسم كل ذلك الكل بريشة الحكواتي المحترف الذي يدرك مغامز النفوس وهناتها وسبل إقناعها وطرق التأثير عليه, وهو في الكتاب رسم صورة الحكواتي الفنان المتقن الذي أدرك حرفة القصص والقصة فأبدع فيها, ثم بالله ربك ألم يكن الخريجي يرسم نفسه ويصور عقليه الباطن واللاباطن في حياكه ثوب الحكواتي القصاص الذي يطرب أهل القرية وذلك حين قال:( كان سرد القصص والحكايات فناً ممتعاً له أهله الذين برعوا فيه وأصبحوا بفضل هذا الفن رياحين المجالس والسهرات, كان الواحد منهم إذا أتى مجموعة من الساهرين في منزل ما هبّ الجميع إلى الترحيب به مصرين عليه أن يأخذ مقعده في صدارة المجلس, كان يجلس وكأنه خالي الذهن لماذا دعي؟ ولماذا أجلس في مكان الصدارة؟ ولا يفتح فمه حتى تتعالى أصوات الكبار والصغار طالبة منه أن يمتعهم بإحدى حكاياته المسلية وبعد تردد مدروس يتنحنح, وينظر حوله ليرى أن العيون كلها متجمعة إليه, وأن المكان قد خيم عليه الصمت, وعندئذٍ يبدأ بسرد حكايته, لقد اختفى هذا الفن الآن, كما اختفت بعض العادات والتقاليد الأخرى التي كان حرياً بنا أن نحافظ عليها.
لا أقول إن كل ما عرفناه وكنا نفعله في زمن مضى ينبغي أن يبقى كما هو, فهذا ضرب من المحال, ثم إن سنة الحياة
هي التطور, فليس من المعقول مثلاً أن نجتمع الآن في سهرة لتقص علينا حكاية على نمط ألف ليلة وليلة, أو لتقرأ علينا قصة عنترة أو سيف بن ذي يزن, فهذه أصبحت الآن جزءاً من التراث, ويكفي أن لا ندعها تموت لتبقى جزءاً من الموروث الشعبي). حقاً هذا هو نفس الأسلوب الروائي القصصي الذي سرد علينا الخريجي من بين ثنايا سطوره قصة حياته, يقول الأستاذ القدير عبد الرحمن السدحان, ما كنهه ومخواه عن صفحات من حياة الخريجي ( إن الكتاب في تقديري ملحمة إنسانية فريدة في الصبر على المحن والتعامل معها عبر الابتسامة حيناً والعبرة معظم الأحيان, وهو مائدة شهية سكب فيها الأديب منصور الخريجي رحيق عمره تجربة ومواقف وعبر منها ما يحزن ومنها مايسر). وأما الدكتور عزت خطاب فيقول عن أسلوب الراوي الحكائي:( أول مايلفت نظرك في سيرة منصور الخريجي صفحات من حياتي هي أنها تأسرك منذ الصفحة الأولى, وبالمناسبة الأخ منصور الخريجي يكتب كما يتحدث وهي قدرة نادرة فيها التلقائية التي لا تكاد تميزها عن الفن الراقي) وتشير الدكتورة صفاء أبو طالب إلى الأسلوب الروائي فتقول:( يتسم أسلوب منصور الخريجي الروائي ببراءة في الحرفة والفن ) والأستاذ عبدالله الجفري يفاجئه أسلوب بطل الرواية ومتعته:( لم يفاجئنى الكتاب بقدر مافوجئت بالكاتب الذي عرفناه شخصية دبلوماسية, والمفاجأة كانت في هذا الأسلوب الأدبي الذي حكى بجاذبيته» صفحات من حياتي) ومعالي الدكتور الأديب عبد العزيز الخويطر فقد كان نحلة أدب, وطلعة أرب فقال:( في قراءة كتاب «صفحات من حياتي متعة متناهية وقراءته تشد القارئ حتى إنني عندما بدأت به أوقفت قراءة مابيدي من كتب وتفرغت لقراءته وأكملته).
ونختم الحلقة الأولى من هذه القراءة بحديث المؤلف عن أسلوبه في حديثه هذا يقول:( لم أضطر لحسن حظي أن ألجأ إلى ذلك الأسلوب الديمقراطي من الإقناع, لأن الكتاب أصبح بين عشية وضحاها حديث الناس, لم أكن أتوقع مهما اشتط بي الحلم - أن يجد الكتاب ذلك الصدى الإيجابي وذلك الاستقبال الحافل).
- يتبع -
** **
- بنت الأعشى