د.أحمد يحي القيسي
المشهد واحد، لكن الرؤى حوله متباينة، وإن كان ثمة أغلبية، فعامة الناس يرونه كما هو، ولا يصفونه بأكثر مما بدا في محط أنظارهم، أما الذين جُبِلُوا على التأمل وإعادة النظر للأشياء من جهاتٍ وأبعاد مختلفة، فإن رؤيتهم له ستكون مغايرة دون شك.
والشاعر بطبيعته دائب التساؤل والتخاطر، لا تمر به المواقف والمشاهد عابرة, حتى وإن غادَرَتهُ حينها، فإنها ستظل عالقة في وجدانه، تقلبها أكف تفكيره على كل حال، حتى تنجلي الغشاوة عن وجه التصور الذي يرتضيه.
وفي الهايكو يتفاوت الشعراء في صيغة التعاطي مع المشاهد وبلورتها وفق التصورات التي تتمخض عن رؤاهم، فمنهم من يدنو من المشهد حد الوصف المحض، فلا تكاد أن تلمح له أثراً، ولا قدح في ذلك، فنص ضفدع باشو أيقونة تشفع لسالكي هذا المنحى.
لكن ثمة من يؤطر المشاهد بتصوراته دون تعد على العناصر التي يتألف منها، فالمشهد بهذا المنظور هو الطعم الذي يلتقطه الشاعر من الطبيعة أو الحياة اليومية ليصطاد به فكرته الكامنة في الأعماق، ومن الأدباء العرب الذين نفذوا إلى قصيدة الهايكو من هذا المنفذ الشاعر العراقي/ سعد برغش، تأمل قوله:
«مؤقتاً
يخرجون من المقبرة
مشيعو الجنازة»
فالمشهد في هذا النص بسيط: (مشيعون يخرجون من المقبرة)، لكنه جاء مؤطراً برؤية الشاعر البعيدة التي تصور له أن هؤلاء المشيعين سيعودون ذات يوم إلى المقبرة محمولين، وأن خروجهم هذا مؤقت، وهي رؤية تتناص في فكرتها العامة مع قول الشاعر كعب بن زهير:
«كل ابن انثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلةٍ حدباء محمول»
لكن تصوراته تتوارى أحياناً خلف المفارقات التي تلهي تركيز المتلقي عند إطلالته الأولى على النص، تأمل قوله:
«لفافة جريدة
بصفحة الحوادث
باقة الجوري»
فالتلقائية التي ارتسم بها المشهد، وعفوية المفارقة في السطر الثالث، تغويان القارئ عن تأمل ما وراء النص، والبحث ما بين الأسطر والكلمات عن أي إحالة كامنة أو بعيدة يرمي إليها الكاتب.
ويطرق برغش أساليب شتى لإيصال رؤيته، ومن النصوص التي استوقفني فيها أسلوبه في التعبير عما يعتمل في نفسه من إحساس بالغربة، يقول:
«مستغرب مني
أنا أيضاً مستغرب منك
أيها البيت الجديد»
والملمح اللافت في هذا النص أن سعدًا تجاوز الترائي -الذي يعتمد في الغالب على إحدى حاستي البصر أو السمع- إلى «التخاطر» الذي ينطلق من الشعور الداخلي تجاه الأشياء. ليبني مشهده، وإن كان يرمي في بنية المعنى العميقة إلى غربة المرحلة.
وأخيرًا، هذه باقة مختارة من ديوانه «حتى أتجاوز زهرة الفاوانيا»:
يا لحسنِ حظي
ستدوم القبلة طويلاً
في ألبوم الصور
***
السنونو الهرم
ربما لا يعود إلى عشه
في الصيف القادم
***
لن أكتب قصيدة
الندى يكفي
في هذا الصباح الربيعي
***
دوران الناعور
لا يعني أبداً أبداً
جريان النهر
***
سرب الإوز
مازال يحلق عالياً
فوق بحر اللوحة