حامد أحمد الشريف
غالبًا ما تحفل بداياتُ أصحاب المواهب الحقيقيّة بالقوّة والجمال، وهو ما يفسِّر ظهورَ بعض اللَّاعبين، في بداياتهم، أكثر إشراقًا وجمالًا، ويشكّلون علاماتٍ فارقةً، كالظاهرة رونالدينيو ونيمار... وعلى المستوى المحلّي نجد أيضًا بعض اللّاعبين الذين أنبأت بداياتهم بمواهبَ من طرازٍ رفيع، لكنّها لم تلبث أن انطفأت سريعًا وضاعت في لجّة النسيان؛ من ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، فهد الغشيان وعبيد الدوسري ونوّاف العابد... وغيرهم كثيرون ممّن لا يتّسع المقام لذكرهم، والسبب - في ظنّي - ينحصر غالبًا في اتّكاء هؤلاء الموهوبين، في بداياتهم، على مهاراتهم وإتقانهم البالغ، وإخلاصهم وتفانيهم في تطوير مواهبهم، واستجابتهم للنصائح، وانضباط سلوكهم، والأهمّ من ذلك كلّه، سعيهم للوصول إلى القمّة التي لا تزال أنظارهم موجّهة إليها، ويرغبونها بشدّة، ويجتهدون كثيرًا لبلوغها؛ حتّى إذا ما شعروا أنّهم وصلوا بالفعل، يخسرون كلّ هذه المواصفات، ويتساقطون تباعًا، ولا ينجو من هؤلاء إلّا قلّة قليلة ممّن يمكن اعتبارهم بالفعل قاماتٍ إبداعيّةً، وظواهرَ إنسانيّة خارقة، لا يفنيها غيرُ عوامل الفناء الطبيعيّة الإنسانيّة، كتقادم العمر، وعجز الجسد عن النهوض بأعماله السابقة، والتراجع الطبيعيّ للقدرات العقليّة التي تحتاجها المهارة، ما يؤدّي إلى اختفاء هؤلاء كقيم مادّيّة محسوسة، وبقائهم كأسماءٍ خالدة، وتاريخٍ مدوَّن، وأساطير لا تنسى.
نذكر من هؤلاء الأساطير، اللّاعب البرتغالي الظاهرة رونالدو، وكذلك متعة كرة القدم الأرجنتيني «ميسّي»، وفي رياضات أخرى نجد «محمد علي كلاي»، وكحالة استثنائيّة يضاف إليهم أيقونة كرة القدم الحديثة «مارادونا» الذي لديه سيناريو مختلف بعض الشيء، فهو قد أخلص لموهبته، وسعى في تطويرها حتّى حان وقت اعتزاله، ما جعلها تكاد تصل إلى ما يشبه الكمال الإنسانيّ، فكان ظاهرة يصعب تكرارها، رغم سوء الخاتمة التي لا علاقة لها بمهاراته وإتقانه البالغ. وهو ما يحدث عادةً مع عددٍ من النماذج الإبداعيّة، ممّن تُقصّر سلوكيّاتهم الحياتيّة الخاطئة في أعمارهم، وتعجِّل نهايتهم، إلّا أنّ إبداعاتِهم تبقى محفوظة رغم رحيلهم بالجسد.
وبعيدًا عن كرة القدم، وفي مجال الأدب تحديدًا، نمرّ كثيرًا بحالاتٍ مشابهة تفوق فيها البداياتُ النهاياتِ بمراحل، فتجد كُتّابًا تعجز عن وصف جمال بدايتهم، ثمّ تتعجّب من إصداراتهم المتأخِّرة التي تجعلك تشكّ في أنّهم هم من سطروها، كما حدث مع الكاتب المصري الكبير يوسف إدريس الذي سُمِّي بتشيخوف القصّة العربيّة، وقت إصدار أوّل مجموعاته القصصيّة «أرخص ليالي»، لكنّه ما لبث أن تنازل عن القمّة في مجموعاته المتأخِّرة التي لم تكن أبدًا في مستوى البدايات، لعدّة أسباب يطول شرحها. ويتكرّر ذلك مع عددٍ من الكتّاب، بالأخصّ المبدعين منهم، حين نجد جَوْدة كتاباتِهم تقلّ بعد وصولهم إلى الشهرة، وإيمان الجميع بموهبتهم، وهو ما يجعلني على المستوى الشخصي، وفي كثير من الأحيان، عندما يستهويني اسمٌ من الأسماء أذهب باتّجاه قديمه، وأتردّد كثيرًا أمام جديده.
ذلك ما حدث معي بالفعل عندما عثرت مصادفة في إحدى المكتبات المعنيّة بالكتب المستعملة، على كتابٍ يحوي مجموعاتٍ قصصيّةً قديمة، فتلقّفته بفرح وأنا أُمنّي النفس بوجبةٍ دسمة؛ فالاسم يمثل بالفعل هذا النوع من الكتّاب المبدعين، وأعني بذلك الكاتب السعودي عبده خال، في كتابه المعنون «ليس هناك ما يُبهج»، الصادر عن دار الجمل في العام 2005م. ويقع في 276 صفحة من القطع المتوسِّط؛ وهو كناية عن ثلاث مجموعاتٍ قصصيّة كُتبت بأسلوب القصّة الكلاسيكيّة الطويلة نسبيًّا، إذا ما قارنّاها بالقصص القصيرة الحاليّة التي لا يتخطى أطولها الخمس صفحات.
أولى هذه القصص امتدت حتّى 16 صفحة، عنوانها «رشيد الحيدري»، وذيّلها الكاتب بتاريخ العام 1414 هجري أي قبل ثلاثين عامًا. في هذه القصّة يظهر لنا أسلوب عبده خال بأبهى حلّة، وهو يأخذ بأيدينا من خلال الراوي العليم الذي منحه منصّة الحكي ووكّله بالسرد نيابة عنه، لنعيش معه حكايةً رائعة تطلعنا على قصّة الإنسان عندما يتجاوز كلّ حدّ في التماهي مع رغباته البوهيميّة، فيجد نفسه وقد فقد كلّ شيءٍ لأنّه اغترّ بمقدّراته وانساق خلف نوازعه. ولعلّ الجميل في هذه القصّة، قدرتها على الجمع بين كلّ ما يجمِّل القصّة القصيرة ويعلي من شأنها، فهي رغم تعدُّد صفحاتها وطولها، بدت شائقة تدفعك لمتابعتها باستمتاع حتّى الوصول إلى نهايتها، وقد جاءت مختزَلة ومكثّفة، رغم تفاصيلها التي توحي بالإغراق والإسهاب، إلّا أنّ السارد وظّفَ كلّ ذلك للغاية التي رسمها ويريد الوصول إليها، فهو من خلال هذا النصّ إنّما أراد إبلاغنا بالتحوّلات التي قد تصيبنا وارتباطها باهتماماتنا، وكيف تمضي بنا الحياة نحو أقدارٍ لم نحسب حسابها.
هذه القصّة بدت لي متعدِّدة المستويات القرائيّة، تبتدئ بالمستوى الظاهر المُرضي لكلّ الأذواق، وهو مستوى لا يهتمّ عادةً إلّا بسرد الحكاية السطحيّة ليفتن المتلقّي بها، ولا يطلب منه غير الاستمتاع بها. بينما نجدها، من جانبٍ آخر، لا تُغفل المتلقّي الواعي الذي لا يكتفي بهذا المستوى وحده فقط، فتأخذه من يده لتطلعه على التغيّرات التبعيّة التي يعيشها أغلبنا، من دون تماسٍّ حقيقيّ مع حياته، عندما يندفع بقوّة في عالم السياسة مثلًا، وهو أبعد ما يكون عنها، وكذلك انحرافه في عوالمَ أخرى...
إنّ هذه البداية المحفِّزة والشائقة تنبئك بما ينتظرك في هذه المجموعة، حيث قُسم الكتاب بشكلٍ واضح إلى ثلاثة مجاميع قصصيّة، تختلف في نوعيّة قصصها، حيث تميل المجموعة الأولى المعنونة «ليس هناك ما يبهج»، إلى الكلاسيكيّة الواقعيّة الطويلة نسبيًّا، وقد أعطى هذا العنوان للكتاب بأكمله. بينما نجد المجموعة الثانية تأخذ منحى الشاعريّة، فعباراتها مغرقة في العذوبة، مع اهتمامها بكلّ عناصر السرد السابقة. هذه البصمة تهيمن على كلّ قصصها بقرارٍ مسبق من الكاتب، كما يبدو، إذ فصلها عن سابقتها، وأعطاها عنوانًا مختلفًا هو «لا أحد»، وتعامل معها وكأنّها مجموعة قصصيّة منفصلة ذات محتوى مختلف، وإن جمعها غلاف واحد. بينما نجده في المجموعة الأخيرة التي عنونها بـ «من يغنّي في هذا الليل»، قد نهج نهجًا مختلفًا كلّيًّا، وأصبح معنيًّا بالإلغاز والطلسمة والذهاب باتّجاه الفنتازيا التخيّليّة والمعاني العميقة التي يصعب فهمها ويكثر الجدل حولها. جاءت قصص هذه المجموعة أقصر من سابقتها، لكنّها أعمق بكثير حتّى أنّك قد لا تستطيع فهم مغازي بعضها، وتضطر لإعادة قراءتها أكثر من مرّة.
مع ذلك، استطاع الكاتب في هذا الكتاب الإمساك، ببراعةٍ شديدة، بدفّة الجمال السردي والحبكة، وقوّة البداية ودهشة النهاية، والمحافظة على مستوى الفهم الأوّل، إذ يجد المتلقّي العادي بغيته في كلّ هذه المجاميع القصصيّة، وقد لا يلتفت إلى عجزه عن فهم مغازيها ومدلولاتها العميقة بسبب رضاه بالحكاية السطحيّة، وهو أمرٌ ينبغي أن تكون عليه القصّة القصيرة الحديثة، بحيث تخاطب جميع القرّاء، وفي مقدّمتهم من يتّخذونها وسيلةً لتزجية الوقت، ولا يهمّهم منها غير الحكاية التي تنقل لهم صراعًا معيّنًا يبتدئون معه وينتهون منه قبل وداعها وهم يتلمّظون حلاوتها ويشعرون بشبعهم.
نشير إلى أنّ الكاتب، في المجموعة الأخيرة، عاش تحدّيًا كبيرًا مع النخبة من القرّاء الذين لا يستهويهم مستوى الفهم الأوّل وحده، رغم اعتباره المدخل الحقيقي الذي لا غنى عنه، في ظلّ أنّهم لا يعترفون بقيمة السرديّة إن لم تكن مكتنزة بالمعاني العميقة. هؤلاء سيجدون صعوبةً كبيرة في هذه المجموعة الأخيرة، ففلسفتها فيها شيء من التعالي، أو لنقل إنّها تمثّل حالةً إنسانيّة يعيشها الكاتب مع نفسه، يطرح من خلالها فلسفاتٍ معيّنةً ورؤًى فكريّةً ومجتمعيّة تخصّه وحده ولا يهمّه وصولها إلى الجميع، لذلك، جاء ترميزها معقّدًا، وشواهدها ليست بذلك الوضوح، وتحتاج - كما أسلفت - إلى تكرار القراءة أكثر من مرّة كي نتمكّن من فهم شيء منها أو الأخذ منها بطرف، رغم أنّ الجزم بأيٍّ من تلك المعاني يبدو غايةً في الصعوبة؛ على عكس ما كان في المجموعتين الأولى والثانية، اللّتين لن يعجزك فهمهما والوصول إلى عمقهما رغم دسامتهما، تحتاج فقط أن تكون لديك الأدوات لفعل ذلك، فالسيميائيّات والشواهد منثورة بكثرة، وستصل إليها إن بذلْتَ الأسباب، وقد لا تحتاج لمعاودة القراءة لتبني عمقًا معيّنًا لكلّ قصّة من القصص، وهو ما سآتي عليه بالتفصيل لاحقًا.
ولعلّ أكثر ما يميِّز هذه المجموعات الثلاث هو التوظيف الأمثل لعناصر السرد ومقوّماته الإبداعيّة، فلا نجد عملًا ارتجاليًّا، بل ذكاءً في التوظيف والاختيارات؛ فالكاتب كان ذكيًّا بالفعل في اختيار نوع السارد، وتأرجحه بين الراوي العليم وضمير المتكلّم وبين السارد الأوحد لكامل القصّة أو المتعدّد، وارتباط كلّ ذلك بماهيّة السرد وغاياته وصراعاته. فهو يقدِّر الحكي، ويمنحه ما يُعلي من قيمته ويساعده على إيصال رسالته. كان مبدعًا أيضًا في إتيانه بالراوي المخاطب ببراعة شديدة بالقدر الذي يحتاجه، كما هو الحال مع قصّة «لا أحد في القلب لا أحد في الطرقات» (صفحة 141)، في قوله: «...تخرج متأبّطًا يومك الحزين والشمس تثرثر بشكل عمودي وأنت تستظلّ بأحلامٍ غضّة.» إلخ... انتهى كلامه.
كذلك كان شاعريًّا في كتابته الأدبيّة حين يتعلّق الأمر بحكايةٍ تنهض على أكناف المشاعر وتخاطب وجدان القارىء. وظهر ذلك - كما أسلفت - في معظم قصص المجموعة الثانية، والشواهد على هذا الجمال الكتابي الأدبي المغرق في الشاعريّة أكثر من أن تُحصَر؛ في وقتٍ كان مباشرًا وموضوعيًّا في سرده إذا ما كانت الحكاية حركيّة تتّسم بالسرعة، وتقوم على فضح إشكاليّات مجتمعيّة، وتجتهد للأخذ بأيدينا لفهمها والوقوف عندها والإسهام في حلِّها، وكانت مساحة السرد أيضًا مرتبطة بغاياته، فلا استطالة ممجوجة ولا تقتيرًا مستفزًا، وهي الحالة المثاليّة التي ينبغي أن يكون عليها السرد، فكلّ القوانين إنّما كان هدفها جمال الحكي، وتحقيقه لأهدافه الإثرائيّة والمعرفيّة، وإثارته حواراتٍ استكشافيّةً، والسارد المبدع من يوظِّف القوانين بعد فهمها لإعلاء قيمة سرديّاته وتحدّي الجميع بها.
وكشواهد على الاختيارات الموفّقة للسارد وقدرته على توظيف القوانين لمصلحة المخطوطة، نجده في قصّة «أناشيد الرجل المطارد» ينيب عنه، باحترافيّة عالية، ضميرَ المتكلِّم، ويمنحه الفرصة كاملةً ليحكي لنا الحكاية البائسة التي نعرفها عن اللصوص، وكيف أنّهم بعد دخولهم هذا المعترك يصعب عليهم الخروج، بل يستحيل أحيانًا. لقد كان خيارًا موفّقًا، بدأ الحكاية برمزيّة رائعة عندما قام بحشر أحد اللصوص في «خنّ الدجاج»، وصوّرَ لنا بإيجاز المرحلة التي كان يعيشها قبل وقوعه في هذا الفخّ، مستعيدًا حياته السابقة بكلّ تفصيلاتها، وهو يحاول النجاة بنفسه فلا يستطيع، فيعود من جديد، رغم الألم، ليبقى ساكنًا بانتظار مصيره الحتميّ. لعلّ جمال هذا الوصف في تصويره بالضبط ما يحدث عادةً مع كلّ لصٍّ عندما لا يمنحه المجمتع فرصةَ الإقلاع والتوبة، ويجبره على البقاء في داخل الخنّ الذي فجّر طاقاته الإجراميّة، والرضا بما سيحدث له، ومعاودة الكرّة في كلّ مرّة، إذ إنّ لا حياة له خارج القفص... قصّةٌ غايةً في الروعة، تبيِّن لنا قيمة مستويات الفهم للرسائل المضمَّنة، والقدرة على قول ما يصحّ قوله فقط دون زيادة أو نقصان.
وهي الحالة الإبداعيّة نفسها التي نعيشها مع قصّة «برحة العنبري» الكلاسيكيّة الواقعيّة حيث برع السارد في منح الراوي العليم زمامَ الحكي، وأنابه عنه في رواية الحكاية، ولم يكن غيره قادرًا على النهوض بهذا الأمر؛ فالراوي المتكلِّم لم يكن خيارًا موفَّقًا لهذه الحكاية تحديدًا، ذلك أنَّ الهمَّ جماعيٌّ يتعلّق بالمجتمع ولا يقتصر على أفرادٍ منه، فنجده يوظِّفه للسخرية من المجتمعات المتخلِِّة التي يمكن بسهولة اللّعب بعقولِ ناسِها وتجييشهم وسلب مالهم، استجابةً لشعاراتٍ زائفة، وكيف أنّ هذه الاستجابة قد يكون فيها هلاكهم. وهو أمرٌ واقعٌ بالفعل، فالناس غالبًا يجرون خلف من يسخر منهم ويدفعهم نحو المسالك الوعرة، ويمنّيهم بالغنى والجاه. وقد تكرّر ذلك كثيرًا في عقود مضت، إذ إنّ جشع الإنسان وطمعه يعميانه، فلا يعتبر بغيره، ويظلّ ينساق خلف أيِّ فكرةٍ جديدة ولو كان الثمن سلبَ ماله، وبعدها يحثو التراب على رأسه، ويُمضي وقته في البكاء على اللبن المسكوب، كما فعل العنبري بنفسه تمامًا... قصّةٌ كسابقتها جميلة وذات مغازٍ عميقة، رغم سطحيّتها المخاتلة وبساطتها الخادعة التي لا يُجيد حبكها غير المبدعين، ولعلّ ذلك يكون في بداياتهم أيضًا وقد لا نجده في نهاياتهم الكتابيّة.
وهكذا يمضي بنا السارد في اختياراته الموفَّقة للرواة الذين يُنيبهم عنه، فنجده يعود في قصّة «الخائن» إلى ضمير المتكلِّم، وكانت الحكاية وماهيّة الصراع المسرود يحتاجان بالفعل إلى هذا الضمير الذي لا يُحسن غيرُه نقل المشاعر والأحاسيس بالصدق المطلوب، لنعيشَ مع ذلك المجهول المتكلِّم الذي تعمّدَ السارد - في ما يبدو - عدم الإتيان باسمه، للدلالة على أنّه لم يكن معنيًّا بالموقف وتبعاته، فهو كحجر الدومينو، مجرَّد أداة في يد غيره، لا يملك من أمره شيئًا، بينما قد يقذفه البعض غاضبًا، وقد يطبع عليه قبلةً ودودة إذا ما أتى وفق هواه، وهو في كلّ أحواله لا هويّة له سوى صلابتِه ولونِه، بينما ينسج صنيعَه الآخرون. وبالتالي، يُعَدُّ الراوي المتكلِّم المجهول حالةً عامّة تتكرّر كثيرًا، يعيش المفارقة نفسها التي تنقلها لنا الحكاية الإبداعيّة، وتحيل حياة البعض إلى جحيم، وهو لا يعرف سبب ذلك؛ كما يحدث مع بعض القادة عندما يرهنون أتباعهم لمصالحهم الشخصيّة، ويتعاملون معهم وفقها، بل قد تصبح هذه الحالة عامّة تمتدّ لتطالَ كلَّ البشر، عندما يحبّونك ويكرمونك إن كانت مصالحهم معك، ويناصبونك العداء إن كانت حاجتهم مع غيرك. وفي كلّ الحالات، قد لا يهتمّون بإفهامك سبب بغضهم أو محبّتهم؛ عليك فقط تلقّي نتيجة ذلك.
لقد كان السرد ذكيًّا، وهو يجعل ذلك في المحاسبة الرسميّة على بعض المظاهر الشكليّة، عندما تحرَّر الغرامات دون معرفة سببها، والمضحك المبكي أنّنا عندما نعرف السبب ونسعى لمعالجته، نصطدم بتغيُّره، ويصبح ما قمنا به من تحرُّز وبالًا علينا. قصّة غاية في الروعة، تكشف كيف أنّ مجتمعاتِنا أصبحت تجبرنا على الدوران في فلك الأقوى، ومتابعته على قوانينه المتغيِّرة، وسرعة تغيير الولاءات تبعًا لتغيُّر ميزان القوى، وإلّا سنصبح خائنين ويتمّ محاسبتنا على ذلك.
الآن وقد أصبحنا نعي جيّدًا ما يفعل السارد، وما يدفعه لفرض بعض القرارات السرديّة، لن نقف طويلًا أمام اختياره للراوي العليم في قصّة «البشارة»، فالحكاية كانت تحتاجه بالفعل ليروي لنا مشهدًا ساخرًا من افتتان أهل القرية بالمسؤول الجديد، واكتشافهم لاحقًا أن الهدف من قدومه هو خطبة ابنة إمام القرية لابنه، وعدم اهتمامه بكلّ الزوبعة التي افتعلوها لاستقباله وضيافته، وتهيئة الأمور بشكلٍ يقيهم شرّ محاسبته لهم. نلاحظ هنا أيضًا أنّ الكوميديا وُظِّفت في سياق السرد، ولم تكن مبتذلة، إذ استخدمها لإيصال رسالة من خلال القصّة التي تشير إلى تفاهة البشر وقدرتهم على صنع النماذج التي تمزِّق ظهورهم بالسياط. وهو ما تكرّر أيضًا مع قصّة «ليس هناك ما يبهج»، عندما وجدنا الراوي العليم يأخذنا معه في جولة، ويدفعنا للإنصات إليه باهتمامٍ بالغ، عندما شرع في إخبارنا عن قصّة أولئك النفر الذين سرقتهم الدنيا، ولبسوا ثيابًا غير ثيابهم، فوقعوا في منطقة لم يستطيعوا معها العودة إلى حياتهم القديمة ولا التعايش مع ظروف حياتهم الجديدة... قصّة جميلة توضح لنا أنّنا عندما نتخلّى عن عزّتنا وكرامتنا ونرضى أن نهان في سبيل مصالحنا، فإنّه لا حدود لسقوطنا، وفي النهاية لن نتحصّل على شيء ممّا أرخصنا نفوسنا لأجله، فالكلّ سيبصق في وجهنا، يتقدّمهم أهلونا ومن تنكّرنا لهم وتعالينا عليهم، بل إنّنا لن ننال رضى حتّى من أرقنا ماء وجوهنا في سبيل إرضائهم وعادينا الجميع من أجلهم.
لعلّي أقف هنا دقيقةً لأشير إلى جانبٍ سلبيّ في هذه القصّة الإبداعيّة «ليس هناك ما يبهج»، فنهاية الحكاية - برأيي - لم تكن بتلك القيمة الموازية لجمال سردها وسيرورة أحداثها عندما أغفل السارد عن عمد ذكر مصير الجثّة. كان من الأفضل لو أنّه تركها عند باب المقبرة بالفعل وفرّ هاربًا، وقتها سيحقّق منها معنى عظيمًا. فمثل هؤلاء الأشخاص يفرّون بالفعل من مشكلاتهم ولا يسعون إلى حلّها، خاصّةً إذا تعلّق الأمر بماضيهم. كان ليبدو بتصرّفه هذا في منتهى الوضاعة والسفالة، فهو لم يجنِ خيرًا من كلِّ تنازلاته التي قدّمها، حتّى أنّه رضي بالدياثة في سبيل مصالحه، ومع ذلك لم يستطع الوفاء بأقلّ التزاماته تجاه والده، عندما تركه يتعفّن في سيّارته ولم يقدر على إكرامه بحثو التراب على جثّته. لقد أخفق الكاتب بهذه النهاية، وأظنّ أنّه لو كتبها مرّة أخرى لن تكون هذه نهايتها...
كان ذلك بالطبع حديثًا يتعلّق بالمجموعة الأولى، لندلف بعدها مباشرة للحديث عن المجموعة الثانية التي عنونها السارد بـ «لا أحد» وهي - كما قلت سابقًا - تمتاز بالعذوبة والرقّة والشاعريّة ومخاطبتها الوجدان، أكثر من نقلها لأحداثٍ سريعة، بالإضافة إلى انتهاجها النهج السابق نفسه في تضمين الحكاية مغازيَ عميقة مع تعدُّد مستويات فهمها. يظهر الاختلاف فقط في اللغة الأكثر شاعريّة، كما يظهر في قصّتها الأولى «الإرث» التي تخبرنا عن داءٍ قاتل يتعلّق باستسلامنا لمقولات الآخرين، وتنفيذها بحذافيرها دون فهم، وربّما يتشارك معنا هذه الإشكاليّة من يقودوننا إلى هذا السلوك المرفوض، ممّن يلقون في جوفنا بعض العبارات، ويطلبون منّا وضعها نصب أعيننا، والتقيُّد بها في تعاملنا مع الآخرين، دون فهمهم لها وإفهامنا المقصود منها على أقلّ تقدير. وهي حالة عامَّة تفسِّر سبب اتّجاهنا نحو أحد الأقطاب في سلوكيّاتنا، والصراع الغبيّ الذي تعيشه مجتمعاتنا. فالمقصود بما ورد في هذه الحكاية من عدم النظر إلى الأعلى خشية انكسار رقابنا، هو عدم التطلُّع إلى ما في أيدي الآخرين، والرضا والقناعة بحياتنا، والسعي للصعود إلى القمّة بطريقتنا ووفق إمكاناتنا، وليس كما كان يفعل البطل الذي اعتمد الذلّ والخنوع وطأطأة الرأس منهجًا يؤطِّر علاقته بمن حوله، استجابةً لنصائح والدته باقتفاء سيرة والده الذي ما فتئت تذكّره به حتّى ساعة وفاتها، وهو ما تسبّب، كما يُظهر لنا بطريقةٍ ساخرة، في ضمور مفاصل رقبته، وتيبُّس غضاريفها، وجفاف مائها، لشدّة ما نكس رأسه أثناء سيره من دون أن يرفعه مطلقًا. إنّ في هذا الوصف البليغ إشارة ذكيّة إلى استحالة العودة عن ذلك مستقبلًا مهما كانت إرادتنا، فالاستسلام والخضوع وكلّ السلوكيّات السيّئة يصعب العودة عنها لاحقًا إن مارسناها فترة طويلة من حياتنا، حتّى لو أدركنا ضررها وقرّرنا العودة عنها. وكأنّي بالسارد يريد إرشادنا إلى الفهم الصحيح لتصرّفاتنا قبل النهوض بأيّ عمل، وعدم المداومة على سلوك واحد حتّى وإن كان جيّدًا، فالتغيير سمة ملازمة للحياة الصحّيّة التي ينبغي أن نعيشها.
وفي قصّة «محاولة لإشعال سيرة منطفئة» التي تميّزت عن غيرها بِلُغتها الشاعريّة المغرقة في الجمال - وهي المزية التي تكاد تجمع شتات هذه المجموعة الثانية، ولكنّها أكثر ظهورًا في هذه القصّة الإبداعيّة - تجد أنّك واقعٌ في حبائل لغتها، مأسورٌ بفتنتها، حتّى لا يعود يهمُّك غيرها، وربّما لا تودُّ بعدها أن تبحثَ عن حكايةٍ وصراعٍ وحبكةٍ وعقدة, فللجمال سحرٌ يأخذ بشغاف القلوب ويُذهب العقول. نجد هذا الجمال الآسر في قوله: «جاءهما اللّيل يدفع أمامه موجًا وعتمةً وعاصفة. تصافقت الأمواج وغدا البحر لجّةً من ليل وغضب. الريح تعوي بصوتٍ حادّ وتركض في البحر وحينما لا تجد ما تمضغه تقبر عواءها في لحد الأمواج». انتهى كلامه. يا لجمال هذا الوصف وقد جمع بين بديع كلمات اللغة، وبين أنسنة الجمادات واستنطاقها، وبين الشاعريّة التي أغرقتنا بالفعل في بحر عذوبتها وفيض رقّتها, وأظنّكم تتّفقون معي أنّ مثل هذه الكتابة الأدبيّة الباذخة الجمال تجعلك لا تبحث عن غيرها، فالصمت في حرم الجمال جمال.
وفوق ذلك، نجد أنّ القاصّ - كعادته - لا يزال يهتمّ بباقي العناصر الإبداعيّة، فلا يكتفي بجمال نظمها، وعذوبة كلامها، وتعدُّد رواتها، ودقّة حبكتها، بل نجده يهتمُّ أيضًا بالمعاني الدفينة، فللقصّة سحرٌ من نوعٍ خاصّ، يلفتك إلى حكاية أولئك النفر المهمّشين في دنيانا، أصحاب السِّيَر التي نعتقد أنّها منطفئة، والذين نظنّهم فقدوا عقولهم، بينما تخبرنا الحكاية أنّ لديهم أفكارًا مهمّة تخصّ مجتمعاتهم، وأنّهم يملكون مشاعر وأحاسيس، وإن كانت هذه المشاعر النازفة قد طوّقتهم وأذهبت شيئًا من عقولهم، وأفقدتهم انتظام حياتهم، وتقيّدوا بقوانين مجتمعاتهم، فعاشوا الفوضى بكلّ تجلّياتها بسبب خضوعهم لتلك الأحاسيس التي تستمطر أدمعهم صباح مساء، بينما نظنّهم هوامشَ إنسانيّة وصورًا سيّئة ينبغي مسحها. ربّما أراد الكاتب أن يفهمنا أهمّيّة أن نتقبّل هذه الفئة من الناس، فأدخل على القصّة، عمدًا، شخصيّة البائع الذي عرف حقيقة بطلنا، وشعر بحزنه وألمه، ولم يهتمّ بفكّ طلاسم قصّته، فكلّ تلك الأقاويل التي تُروى عنه لم تكن مهمّة بقدر ما كان هو الأهمّ، ما دفعه لاستكمال مسيرته بالقرع على طبلته وترديد عبارته التي اشتهر بها «يا كريم يا كريم نحن على بابك يا كريم».
ولأنّ جمال البدايات لا يمكن اختزاله في صفحة واحدة، سنتوقّف ها هنا، ونعاود في الأسبوع المقبل الحديث عن قوّة البدايات التي ينبغي ألّا تقلَّ النهايات قوّةً عنها مستشهدين بمعزوفة عبده خال «ليس هناك ما يبهج».