ناهد الأغا
نالت الفروسية والشجاعة نصيباً كبيراً منذ القدم في شخصية شعراء بلغوا منازل شعرية عظيمة، وارتبطت بأوثق الصلات بفحولة وجزالة الشعر معنىً وقريحةً تخفق في وجدان الشعراء، الذين امتزجت فروسيتهم وشجاعتهم بشعرهم، إلى أن وصل الأدب مبلغاً بظواهر أدبية وشعرية عُرفت بـ «أدب الفروسية» و»شعر الفروسية»، الذي كان بحق لسان حالهم المُعبر عن حالتهم فرحاً وسروراً وترحاً وحزناً، ووسيلة متعتهم وترفيههم، وأسلوب التثقيف الأول والأبرز في أيامهم، حتى أنه أصبح السلاح المؤثر، الذي يذود به الشاعر عن قبيلته، فلم يكن ما قيل ونُظِم خواطر وأبيات عابرة، فتلاحمت السيوف المشرعة والألسن الفصيحة، لقد شكلت الفروسية في جوهرها ذلك البناء الجميل والخيلاء الرفيع، كأنها الحُلية النفيسة التي تُزين من ارتداها، والتصقت به، فعظيمة قيم البسالة والإقدام، التي توارثتها العُرب على امتداد أزمنتهم وأجيالهم، فلا زلنا حتى اليوم نقرأ الملاحم والملامح الفروسية لعنترة بن شداد، الذي عشق الحرب والفروسية لحد طلب المنية دون خوف أو تردد، فما أبلغه من قول وأشد بأس قائله :
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن عرض الحتوف بمنزل
لا بد أن أسقى بكأس
المنهل فأجبتها ان المنية منهل
وتطلعنا المظان الأدبية عن جمهرة أشعار في العصور التالية لما قبل الإسلام إبان فجره وعهد بني أمية والعباسيين والعصور المتتابعة، وتستحق جملة كبيرة منها أن توسم بشعر الحماسة، والبسالة أيضاً دون أي شك أو ريب في ذلك، فسيرة ومسيرة الأبطال والبطولة، وحديث الإقدام والشجاعة، ورواية الشجعان تسير في أبناء وحفدة العُرب، كما يجري الدم في العروق، وبقي أبطال وفرسان شعراء مجيدين، عاشوا على هذه الأرض المعطاءة، والزاخرة، من خيرة الأبناء، و من تعطر سيرتهم التاريخ المجيد، ففي أسطر الوطن، نقرأ اسماً لم يكن حضوره وذكره إلا وقوفاً مشرفاً، وتذكراً جليلاً، لمن كتب سطور حياته بقبس من نور، يهدي السالكين في دياجي الظلام الحالك السواد، كلما عبقت نسمات آثارهم الخالدة في النفوس والمهج.
تقف المحطة بنا ونقرأ عن مقربة عن الشيخ الشاعر والفارس راكان بن حثلين شيخ قبيلة العجمان، شخصية جمعت في جنبات تكوينها الفروسية والشعر، كأنني ألمس جلياً أولئك الشعراء الفحول القلائل، الذين امتازوا بذلك، في حقبة ماضية على هذه المعمورة، وفي قرون ماضية خلت، كان للشيخ والشاعر الفارس قصص وصولات وجولات، ذاد فيها ابن حثلين بروحه ونفسه ودمه، ولم يلق لها بالاً رغم وقوعه أسيراً، ونفيه خارج بلاده وأرضه التي أحبها.
شخصية توافقية بثنائية متكاملة بين الشعر والفروسية، تضافرت أقواله بأفعاله واقترنت برباط وثيق، تشاهد بطولاته جلية في ثنايا حروف أبياته، وتقرأ حسن صنيعه في الوغى شاهداً حاضراً كأنه أمام ناظريك، أستحضر ذلك جلياً في أبيات قصيدته له، شارحاً فيها ظروف ووقائع أسره من قبل السلطات العثمانية بطريقة مخادعة ومحتالة، فلم يتمكنوا منه في حالة المواجهة الحقيقية لمعرفتهم ببسالته وقوته وشجاعته، التي أنشد فيها قائلاً:
حمزة مشينا من ديار المحبين
الله يرجعنا عليهم سلومي
مشوا بنا العسكر لدار السلاطين
في مركب جزواه ترك ورومي
عشرين ليل يمة الغرب مقفين
ماحن نشوف إلا السما والنجومي
والنوم يامشكاي مالاج في العين
والقلب ياحمزة تزايد همومي
من الخداعة واحتيال الملاعين
هيهات لو اني عرفت العلومي
هيا اركبو من عندنا فوق ثنتين
وخلوا نجايبكم مع الدو تومي
لازوعن بالوصف مثل القطاتين
تبغى الشراب ولايعنها السمومي
اليا اصبحن كنهن جريد البساتين
نحال من كثر الحفا وارثومي
تلفي على ربع عساهم عزيزين
أهل الشجاعه والكرم والعزومي
ربعي ضنا مرزوق بالعسر واللين
لطامةٍ للي عليهم يزومي
عجمان لا رد البرا للمعادين
حريبهم من همهم ماينومي
يوم الخيانة ليت هم لي قريبين
من فوق زلبات تبوج الحزومي
تصوير حي جداً بمعانٍ غزيرة ووصف دقيق للحالة التي مرّ بها الشاعر الفارس، الذي يمتاز بالأمانة والصدق، وكره الخيانة الآثمة، التي لولاها لما استطاعت أشد القوى النيل منه.
إن التاريخ يفخر بذكر القادة والأعمدة الراسية كما هي الجبال، ومن تزين الصفحات مآثرهم، وليس ذلك متاحاً للجميع، وها نحن بعد قرون ونيف من الزمن تحيي البطولات ذكر الطود الأشم، والتغني بإرثه المجيد الجميل.
ويغدو ليلي بين حروف الشعر وما ابحث
حيّ القديم، واقف عنده، ثم الجديد به اجول