خالد محمد الدوس
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (57) سورة العنكبوت، وقال تعالى {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (156) سورة البقرة.
تلقيت صباح يوم الخميس الماضي ببالغ الحزن والأسى خبر وفاة العم الشيخ الفاضل عبد العزيز بن محمد الدرح (1359-1445) بعد معاناته المرضية، تغمده الله بواسع رحمته عن عمر يناهز 86 سنة.
والعم الراحل (أبو سعد) جمع من الخصال أجملها، ومن الفضائل أروعها ومن المكارم أرقها في شخصيته المتواضعة المحبوبة. عاش (فقيدنا الغالي) في أسرة (آل درح) وهي معروفة بعمق تاريخها في المجتمع النجدي ومن الأهالي التي اشتهرت في حي الظهيرة بوسط الرياض ووالده العم الشيخ محمد بن حسين الدرح - رحمه الله تعالى- (1312-1384) عرف عنه الالتزام الديني وحبه للأعمال الخيرية والبّر والإحسان والكرم, فعاش (أبو سعد) في كنف والده الذي نهل من مدرسته العلوم الدينية والاجتماعية والتربوية التي انعكست على بناء شخصية محبوبة من الجميع صغارا وكبارا.. شخصية متزنة كانت تتمتع بنبل التعامل والإحساس الإنساني المرهف وطيبة القلب المتناهيه وسلامة سريرته وبشاشته العفوية والكرم والأصالة.
عرف عنه -يرحمه الله- برّه بوالدته (لطيفة بنت عبد الله الزعير) رحمها الله وملازمته لها وكان يقوم على رعايتها ومتابعة احوالها الصحية بنفسه حتى أنه -كما يروى- كان معظم وقته يقضيه معها وعلى مائدة واحدة..! وكان قليل الحضور للمناسبات الاجتماعية من أجل ملازمة والدته فكان -رحمه الله- نموذجا يقتدى به في خصال البّر. يذكر لي زوج ابنته الأخ (إبراهيم الزعير) بعض المواقف النبيلة عنه التي تنم عن قيم البّر والإحسان.. ومنها أنه كان يستشير والدته -رغم أنها أمية لا تقرأ ولا تكتب ولكنها فاقت الكثيرين ممن يقرؤون بحكمتها وعقلها وموازنتها للأمور -في الجوانب التي تخص بيته- ويأخذ برأيها حتى لو كان رأيه هو الصواب..!! ولكنه كان يحترم رأي والدته ولا يريد أن يجرح مشاعرها في كل الأحوال.
وبعد وفاة والده عاشت والدته عنده وكان بيته في حي الظهيرة ثم في حي الشفا (مفتوحا) يستقبل الأقارب والأحباب وكان كل جمعة يستقبل ضيوفه ويتغدون عنده لأنه كان صاحب كرم وسخاء يقابل أحبابه وأصحابه ببشاشته المعهودة وابتسامته المألوفه.. وأتذكر جيدا في (طفولتي) قبل أكثر من 30 عاما كان في كل صباح يوم (العيد) الخاص بعائلتي الدوس والدرح بحكم القرابة المتعمقة يحضر معه حزمة من الريالات ويوزعها على الأطفال كل واحد يعطيه ريالا.. والريال في ذلك الزمن الجميل له قيمة..!! ويشاركهم فرحة العيد ويدخل السرور عليهم حتى أصبح اسم العم (أبو سعد) على كل لسان وفي القلب محفوف بالود والعرفان..!
عمل فقيدنا الغالي في وزارة المعارف وكان مربيا فاضلا وقدوة حسنة وكان خلوقا متواضعا اجتمعت فيه مكارم الأخلاق والعلم والعقل والوعي والثقافة، أحكمته التجارب فزادته حكمة وتواضعا يسكته الحلم وينطقه العلم لا يقول لسانه إلا خيرا. كما عمل في وزارة الشئون الاسلامية والدعوة والإرشاد، وعمل ضمن نشاطه الثقافي الرصين في (مجلة الدعوة) وكان من محبي القراءة والاطلاع الواسع الذي أسهم في بناء شخصية مثقفة واعية متزنه كسبت محبة وإعجاب الجميع.
كان مجلسه عامرا بالفوائد الدينية والفرائد الاجتماعية والثقافية والكل كان يسعد بالحضور ومجالسته والاستئناس بحديثه الثري عن الماضي الجميل وعن نصائحه الإيمانية التي تصل للقلب قبل العقل من روعة الأسلوب الذي يجذب القلوب.!, خاصة أن فقيدنا الغالي اشتهر في محيطنا القرابي بحبه واهتمامه بالتوثيق التاريخي الاجتماعي وبالتراث القديم حتى في شبابه كان الشخص الوحيد الذي وثق جزءاً من تاريخ بعض الأُسر من أهالي الرياض قبل أكثر من (50 سنة) بتصوير المناسبات العائلية ورصد الاجتماعات الفرائحية وتوثيق كل (حدث) بخط يده حتى أصبح المرجع التاريخي الاجتماعي الوحيد في نسقنا العائلي فترك مكتبة ثقافية تراثية في قالبها التاريخي وبالتالي كانت له مكانة خاصة في العائلة لا سيما عند كبار السن الذين كانوا يزورنه أسبوعيا ومنهم والدي -رحمه الله- الذي رغم أنه كان يكبره بـ(20 سنة) كان يزوره كل صباح (أسبوعياً) مع ابن اخته الشيخ عبد الله بن يوسف وخاله محمد بن زعير رحمهم الله. لأنهم كانوا يجدون كل التقدير والاحترام والفوائد من نوعية الحديث الذي يجمع بين الحاضر والماضي في مجلسه العامر بالسخاء والكرم والنبل والذكر وأجوائها الإيمانية التي تدخل السرور على النفس وتجلب السعادة للحاضرين.
في مرضه ضرب -رحمه الله- أروع معاني الصبر والاحتساب في معاناته الصحية فكان يردد ويذكر فضل الله سبحانه عليه حامداً وشاكراً لخالقه العظيم، وبعد تردي أوضاعه الصحية في ظل معاناته المرضية لم يشتك بل كان يشكو بثه وحزنه إلى الله عز وجل، حتى ومع اشتداد مرضه كان يسأل عن الصلاة، وحريصاً عليها.. فكان بالفعل يؤمن بأن الإيمان (نصفان) نصف شكر والنصف الآخر صبر.. ولعل ثباته وصبره على مرضه يؤكد عمق إيمانه وكثرة حمده لله والثناء عليه والشكر له عز وجل في كل حال. فترك لنا دروساً عظيمة في حسن الظن بالله والثقة به، والإيمان التام أن المؤمن كل أمره خير كما قال الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الإمام مسلم: (عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ). رحم الله فقيدنا الغالي العم الفاضل (عبد العزيز الدرح) وأسكنه فسيح جناته وجعل ما أصابه من مرض وسقم تكفيراً للخطايا ورفعة في الدرجات تغمده الله بواسع رحمته.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.