أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
تعد المنهجية العلمية ركيزة أساسية تحدد بموجبها درجة التفاعل بين مختلف العلوم المتنوعة التخصصات، والآفاق البحثية المختلفة، والتطبيقات الرائدة في شتى المجالات. وكي تكون هذه المنهجية فاعلة في تحديد تلك الدرجة ينبغي لها أن تأتلف مضامينها المعرفية في حقل منهجي استقراء- استدلالي موحد ولا تختلف. كما ينبغي لها أن تشكل في الوقت ذاته قاسماً مشتركاً أعظم يجمع بين مختلف الأطياف الفكرية والفلسفية والحقول المعرفية لهذه العلوم مهما تنوعت اتجاهاتها، واختلفت تخصصاتها، وتباينت تطبيقاتها، وتباعدت أطراف خيوط تلاقحها. ولكي يتحقق ذلك، سعى البراجماتيون، والتكنوقراطيون، من المفكرين، والعلماء المشتغلين بعلوم الإنسان والطبيعة في العالم على مر الأزمان سعياً حثيثاً لتحويل ماهية التفاعل بين العلوم وهويته في نهاية المطاف إلى مجتمعٍ معرفيٍ رائدٍ ذي تأثيرٍ فاعلٍ في اقتصاديات أسواق هذا العصر.
في رأيي المتواضع أن التحول الآنف الذكر أعلاه لن يتم البتة اعتماداً على التركيب البنيوي السلوكي أو التصنيف التخصصي الدقيق للعلوم، وإنما يتم اعتماداً على كفاءة المنهجية التي توظفها تلك العلوم، وصدق التعميمات الاستقراء - استدلالية التي تستنبطها، وصرامة الأساليب التي تستخدمها، ودقة الأدوات المنهجية التي تطبقها. وتأسيساً على ما سبق، فالكيمياء، والفيزياء، والرياضيات، والهندسة، والجغرافيا، والبيئة، والأحياء، والتاريخ، والآثار، والاجتماع، والتربية، والإدارة، واللغات وآدابها، والإعلام، وأنظمة تقنيات المعلومات، والجيوماتيك وغيرها، تعد في رأيي علوماً أشبه ما تكون بشخصيات اعتبارية تتخذ كل شخصية منها المنهجية العلمية وأساليب إعمال العقل مسلكاً أساسياً وديدناً علمياً لتأطير تعميماتها، وتحديد استنتاجاتها، وبلورة استنباطاتها، وترسيخ جدوى تطبيقاتها، والتنظير لأبعادها الإجرائية بحثًا واستقصاءً وتحليلاً.
مما سبق يتضح إذن أن المحك في التفريق بين العلوم وتفاعلها بينياً هو محك منهجي وليس محكاً معرفياً أو نوعياً تصنيفياً كما يظن البعض من المتنطعين الدوجماتيين المشتغلين بهذا الشأن المعرفي. ولذا اعتماداً على ما سبق، لا يمكن أن يتحقق بطبيعة الحال تفاعل براجماتيٌ ناجح بين العلوم في ظل مثل هذه الرؤية الضيقة المتحيزة غير المنهجية التي تحتكر المعرفة، وتصادرها، وتحجر عليها لصالح رؤياها الدوجماتية، وتقصرها ضمن إطار تخصصها الدقيق الطبيعي أو الإنساني الذي تتقنه فحسب مقصية ثقافة العلوم الأخرى ودورها المشهود في الساحة الأكاديمية وفي أسواق العمل المفتوحة المتجددة المتنوعة الآفاق على حد سواء. وكذلك من غير المنطق أبداً أن نتصور تفاعلاً علمياً ناجحاً دون أن يكون له مرجعياته الرابضة في العلوم الإنسانية على قدم المساواة تماما مع نظيراتها من المرجعيات العلمية القابعة في العلوم الأساسية الأخرى الطبيعية البحتة والتقنية الرقمية المهنية والهندسية والمعمارية المختلفة الأطياف والأبعاد وما شابه ذلك من العلوم وانضاف إليها.
لا شك أن المبالغة في الدور الذي تلعبه العلوم الطبيعية والتقنية الهندسية والرقمية تنموياً دون سواها يعد تحيزاً غير منهجي يؤدي حتما في نهاية المطاف إلى تهميش الدور التنموي المناظر للعلوم الإنسانية وإسقاط حقها المشروع كرافد آخر مرجعي هام والعكس صحيح. وقد يترتب على مثل هذا الأمر الجلل توسيع الهوة بين العلوم، وتعزيز فصامها المعرفي النكد الذي يؤثر سلباً على تقدمها وتطورها، ويعيق فرص التفاعل الإيجابي فيما بينها. وتأسيساً على ذلك لا بد لذوي الاهتمام بهذا الحقل المعرفي الهام صياغة استراتيجيات شمولية مدروسة صارمة رحبة المناظير يتم بموجبها تفعيل منظومات التكامل البيني بين العلوم الطبيعية والتقنية الرقمية والعلوم الإنسانية على كافة المستويات التنظيرية والتطبيقية والتنموية بمختلف مجالاتها وأنماطها.
واعتماداً على ما ورد آنفاً يجب إذن ألا يغيب عن البال أن عدم إلمام العالِم الطبيعي بقدر كافٍ من العلوم الإنسانية والاجتماعية والأدبية والشرعية من شأنه بلا شك أن يقلل من فاعلية إنتاجه العلمي، ويحد من درجة إسهاماته في تنمية المجتمعات وتعزيز اقتصاداتها المعرفية، ويعيق إسهاماته المأمولة في تطويرها ونموها النمو الأمثل. وفي المقابل فعالِم الإنسانيات الذي لا يلم كذلك بأبعاد واتجاهات العلوم الطبيعية وأطرها البحثية وآفاقها التطبيقية والمهنية يعيش خارج عصر الثورة العلمية والتقنية وتحديات هذا العصر ومشكلاته واحتياجات أسواق العمل العالمية الديناميكية المفتوحة المتجددة. ونتيجة لذلك أدرك الغرب منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي هذا التهديد القائم بين ثقافتين تتسع الفجوة بينهما وتزداد، فعمل من خلال مشروعات عملاقة لردم تلك الفجوة أو تضييقها إلى الحد الأدنى الذي لا يمثل خطورة على مستقبل العلمين الإنساني والطبيعي أو على المستفيدين منهما والمشتغلين بهما من عامة الأمة وخاصتها.
على الرغم من كل تلك الجهود المبذولة لردم الفجوة بين الثقافتين، إلاّ أن فئة من الأكاديميين والمخططين للتعليم في العالم، على قلة عددهم، لا تزال تستميت لمحاربة هذا الاتجاه المنظومي الحيوي الرحب البناء. ويبدو أن هذه الفئة قد تناست أن العلوم متداخلة لا حدود بينها ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض. فالعلوم بطبيعتها ذات بنيات ثورية متجددة المناظير راجعة التغذية مستعصية الاستسلام للفكر الدوجماتي الاحتكاري غير البراجماتي.
ومن الجدير بالذكر في ختام هذا المقال الإشارة إلى الدور الفاعل الذي تلعبه العلوم الشرعية في تعزيز التفاعل بين مختلف المعارف بشقيها الطبيعي والإنساني. فالعلوم الشرعية هي التي تضبط مسارات الصلة بين شقي تلك العلوم وتؤصلها وفق الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، وطرائق القياس والاجتهاد، وسبل الاستدلال التي توظفها في التفريق بين النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة التي لا تجوز فيها التعددية الفكرية شرعاً وبين النصوص الظنية الثبوت الظنية الدلالة حمالة الأوجه التي تستوعب الخلاف وتحتمله. فالتعددية أمر وارد في الشرع طالما أنها لا تخالف ما هو قطعي من النصوص الشرعية في ثبوته ودلالته، أو ظني الثبوت صحيح قطعي الدلالة، أوما عُلم من الدين بالضرورة، وأما ما خلاف ذلك فالباب فيه واسع وسائغ للاختلاف وتعدد الآراء التي لها حظ من النظر والاستقصاء والسبر والاعتبار.