منى السعدي
استمرت سنوات وبعدها سنوات، والذكرى وليدة أيام ذلك العام، بتفاصيلها الخلاَّبة ومشاعرها الجميلة. إن الوفاء من أنبل الخصال الحميدة التي يتسم بها الشخص، فالشخص الوفيّ كالنهر الذي يرتوي منه الظمآن، ولا يمكن أن تُبنى وتستمر تلك العلاقات البشرية المحفوفة بالذكريات إلا به، إذا وفيت وأخلصت مع الناس فإنك بالمقابل ستوفي وتخلص لنفسك، قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}.
وقال ابن حزم: (إنَّ من حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق.. الوفاء؛ وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات.. وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب... لا يحول عنه إلا خبيث المحتد، لا خلاق له ولا خير عنده).
وذكرى الأشخاص الأوفياء العالقة في ذلك العام هي وليدة الأعوام التي جاءت بعده. يقال إن النسيان نعمة يتمتع بها الإنسان، لكن هناك أناساً تترسخ ذكراهم كالجبل الأشم فوق الصخور المتناثرة، نستحضر تلك الأيام بتفاصيلها المليئة برسائلهم، وصورهم، ضحكاتهم، ولو كانت تلك الذكريات مجرد مواقف تمر في ذاكرتنا دون أن تُبقي لدينا مشاعر؛ لما تأثرنا عند تذكرنا مواقف، وأماكن، وأشخاصاً فارقونا بالموت أو البعد أو استمروا معنا.
عقل الإنسان بمثابة كمبيوتر مذهل يمتلك سعة لا محدودة لتخزين الذكريات، والذاكرة هي إحدى قدرات العقل التي تمكِّنه من تخزين المعلومات واسترجاعها عند حاجتنا إليها.
قد تجمعنا الدنيا بأشخاص، أو قد نمر بأماكن لا نعتبرها في بداية الأمر مهمة، لكن عند الابتعاد نشعر بقيمتها ومدى تأثيرها.
الذكريات الإيجابية في حياتنا تفرض نفسها، فهي جوهرنا، وأعز ما نملك، وهي عماد علاقاتنا الاجتماعية وتاريخنا ومعرفتنا وكل ما نتميز به.
وأما بالنسبة للذكريات المصحوبة بالمشاعر السلبية العالقة بداخل البعض؛ فإنها تؤثّر سلبًا على نفسية الفرد والدخول في مراحل متقدمة من الاكتئاب، وفقدان الرغبة في تحقيق الأهداف والتطلعات، واستشعار قيمة اللحظات ولذتها، وتنسينا التفكير، والتخطيط للمستقبل، ولا يمكننا أن نهتم بالحاضر إلا من خلال هجرنا لها، لذلك قُم بخلق ذكريات جديدة بروح تملؤها مشاعر فعّالة وصالحة.
وللتخلص من العواقب السيئة للذكريات؛ عليك المحاولة لإقناع العقل الباطن وتدريبه على التكيّف مع الظروف المختلفة؛ لإعادة التوازن إلى نفسك والتحكم بمشاعرك، والتحرر والتعافي من المشاعر السلبية لتلك الذكريات.
إنَّ بناء الشخصية القوية ليس بالأمر السهل؛ بل يتم تكوينها بعد التغلب على كل العقبات، وتخطي الصدمات، وأحداث الماضي المؤلمة، والنظر إلى المستقبل بنظرة تفاؤلية. ولتجاوز الذكريات التي تهدم أحلامك لا بد أن تتصالح مع ذاتك وواقعك، وتزكي نفسك بالإيمان وعدم الاستسلام من أجل تخطي العقبات التي قد تحدث في المستقبل.
الذكريات إما نار تشتعل في النفس نتمنى خمودها، أو نور نستضيء به في مسيرتنا.
وفي الختام، الذكريات هي حالات شعورية واعية، أو غير واعية يتم تكوينها من خلال أحداث معينة وظروف معينة، والتعلق بالذكرى لا بد أن يكون سببًا من أسباب السعي إلى تلبية التطلعات، وتعزيز الآمال. لا تجعلها مقبرة لذاتك وأحلامك وطموحاتك.