د. خالد عبدالله الخميس
حقيقةٌ لا جدالَ فيها، أن الملك «عبدالعزيز» -رحمه الله-لم يُجمل سيرته مديح مادحٍ، ولا ثناء كاتبٍ، ولم تُعلِ شهرتَه منابرُ الإعلام، ولا تغريدات المغردين، ولم يكن مغرماً بأن يُلقب بإمبراطور العرب، أو صقر الجزيرة، أو رومل العرب، أو بسمارك العرب، أو عالَم في رجل، فسيرته الحافلة بالبطولات والأمجاد، وزعامته المهيبة هي التي فرضت مقامها على العالم بأسره، وأعجب ما يأسرك في شخصيته، أن الزمان كلما تقادم عليه، زاد الناس شوقاً لاستعادة سيرته.
إن المرء ليعجزُ أن يصنع لقباً جديداً يَليق بشخص الملك عبدالعزيز، باعتبار أن كل الألقاب التي تليق به قد اُستنفدت، فلقد قُدرت الأوصاف التي وُصف بها الملك عبدالعزيز بـ53 وصفاً وعشرة ألقاب، جُمعت في كتاب «الملك عبدالعزيز، رؤية عالمية».
إن الحديث عن الملك عبدالعزيز حديثٌ يطول وذو شجون، وفيه من الإثارة والمتعة الشيء الكثير، ناهيك أن شخصيته بحد ذاتها شخصية ملهمة لكل زعيم، فيكاد لا تجد يوماً يمر على الملك عبدالعزيز أو مناسبة من حياته، إلا وفيها شيء من شواهد الزعامة وحكاية من حكايات العبقرية، فله في مجال الحرب والسلم صورٌ من البطولات، وله في مجال الدبلوماسية والتفاوض مع الدول العظمى مواقف من العبقريات، وله في مجال التوفيق بين القوى المتنازعة في الداخل والخارج حكاياتٌ وحكايات، وله في المواقف الشجاعة والنخوة العربية قصص من البطولات. وفي ذات الوقت له في مواقف الصفح، والصلح، والاحتواء، والعفو، والتواضع مواقف عدة لا تُحصى، وله في مواقف قوة البيان والحجة والإقناع صور شتى، وهكذا فإنه يصعب حصر مواقفه وصفاته العبقرية في عدد محدود، فصفات القيادة والزعامة للملك عبدالعزيز تتمدد، حتى لا يمكن وصفها إلا بـ «ظاهرة الزعامة العبدالعزيزية»، وهذه الظاهرة الفذة و»الكاريزمات» الفريدة ما كانت لتكون إلا في شخص تولع منذ صباه بالزعامة والسيادة. فلا عجب، فأبوه ملك، وجده ملك، ومن أسرة يمتد تاريخها لأكثر من ثلاثة قرون في الملك، حتى قبل تأسيس الدولة السعودية الأولى في عام 1727م.
ومن المواقف الطفولية للملك عبدالعزيز التي تحكي ولعه بالزعامة، أنه عندما كان طفلاً برفقة والده الإمام عبدالرحمن في البحرين، إذ سأله الشيخ عيسى بن علي آل خليفة أمير البحرين: أيهما أحسن قطر أم البحرين، فقال بدون تردد: «الرياض أحسن منهم كلهم»، كناية عن ما يدور في ذهن الصبي من محبة متجذرة وولع بالزعامة وهمة لتولي قيادة جيش يستعيد به حاكمية مدينة الرياض، «كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل».
لقد جُبل «عبدالعزيز» منذ طفولته على محبة الرياض، كيف ولا وقد وُلِد فيها، ونشأ صباه فيها، وتعلم في مساجدها ولعب في أزقتها، وكون أصدقاء الطفولة فيها، حتى غادرها مُكرهاً وهو في عمر الـ 14 عاماً. وهذا الحب المكين للرياض هو مَن ضاعف روح المغامرة والإقدام، وكأنه يتمثل أبيات الأمير الشاعر سعود بن عبدالله:
قلبي تولّع بالرياض
حب ورثته من الجدود
يا نجد يا أرضي وسماي
يعجز عن الوصف اللسان
الحب مالي فيه رأي
وما أظن لي غيرك مكان
إن مقولته المشهورة «الرياض أحسن منهم كلهم» يكشف لك مدى توقه لخوض معركة الاسترداد وطموحه للزعامة. نعم، لم يكن الفتى «عبدالعزيز» مولعاً بالاستمتاع باللهو، رغم وجود انفتاح حضاري في البحرين والكويت، إذ الولع باسترداد الرياض كان هو الحلم الأول وشغله الشاغل.
وتأكيد لهذا الحلم كان يكرر على والده الإمام عبدالرحمن عندما كان في الكويت مقولته المشهورة: «يا أبتِ، لم أعد أحتمل العيش إلا في الرياض، فإما أن تقطع رأسي وإما أن تسمح لي مع بعض الرجال بالعودة لفتح الرياض، ومع طول في التكرار سمح له الإمام الوالد بالمضي قدماً فيما عزم عليه.
ولقد تجلت صفة القيادة لدى الشاب «عبدالعزيز» منذ وقت مبكر ونضجت روح الزعامة والتخطيط العسكري أثناء شبابه، فقد استطاع من خلال تنفيذ خطة محكمة استرداد مدينة الرياض وعمره حينها لم يتجاوز الـ 25 عاماً، بالرغم أن من حوله حاولوا ثني عزمه خوفاً من عواقب الأمور، إلا أن عزمه وإصراره على استرداد الرياض كان فوق التصور، فكان الفتى عبدالعزيز لا يرى نفسه «عبدالعزيز» إلا وهو يحكم الرياض، وهكذا كانت ملحمة الرياض مدفوعة بجسارة متوقدة وإصرار صلب وذكاء حربي فريد دفعته لخوض مواجهة حربية أحسن تخطيطها، وانتهت بنصر مؤزر وبأقل خسائر ممكنة في الأرواح والعتاد.
إن ملحمة استرداد الرياض تُعد بحق أبرزَ منعطفٍ تاريخيٍ في تأسيس هذا الوطن، ففيها تجلت فطنة الشاب «عبدالعزيز» ومهارته في التخطيط المحنك للمعركة، وفيها تبدت جسارته في الدخول في اشتباك قتالي وجهاً لوجه أمام الخصم، ناهيك عن تجلي سمة الزعامة التي كانت حاضرة قبل المعركة وبعدها.
لم تكن ملحمة الرياض التاريخية معركة حربية بين جيشين، بل كانت استرداداً سلمياً لمدينة الرياض، يؤكد ذلك أن العملية تمت بأقل ما يمكن من إراقة الدماء، وخلال ساعات معدودة.
اختار الشاب «عبدالعزيز» لهذه المهمة بضعة رجالٍ اتسم فيهم سمات السرية والولاء والفداء والانضباط، وكانت المبادئ الأساسية لهذه المهمة ترتكز على ثلاث دعائم؛ المغامرة من دون تهور، والسرية من دون تسرع، والمباغتة من دون حيرة. ولتأكيد السرية والمباغتة، لم يصرح عبدالعزيز لرجاله عن خطته، ولا عن وقت بدء المعركة ومتى تكون ساعة الصفر إلا قبل المواجهة بيوم أو يومين.
كانوا قرابة الستين رجلاً، وكان الوقت شاتياً، خيموا في البداية في واحة بين مدينة «يبرين» ومدينة «حرض» (تبعد عن الرياض مسافة 200 كم)، وتأكيداً للتخفي عن الأنظار انتقلوا إلى الربع الخالي وتحديداً رمال «الجافورة»، ولم يكن أحد من قواته وأنصاره يعلم تفاصيل ما سيُقدِم عليه عبدالعزيز، وكيف ستكون خطته؟ فهل سيكرر محاصرة الرياض كما فعل قبل عام ولم ينجح؟ أم سيلتقي بجيش ابن عجلان؛ عامل ابن الرشيد وجهاً لوجه؟ وكلا الخطتين فيهما مغامرة وتهور. لم تكن هذه أو تلك هي الخطة، فكان التوجيه من الشاب «عبدالعزيز» لرجاله هو الاستمرار في التخييم في رمال الجافورة، حتى تيأس العيون عن البحث عنهم وينتهي رصد تحركاتهم. ولما أطالوا المكث هنالك اطمأن الخصم والجواسيس أن جيش عبدالعزيز قد عاد للكويت.
مكثوا في الجافورة 50 يوماً بعدها وقّت الشاب «عبدالعزيز» للمسير نحو الرياض في ليالٍ غير مقمرة حيث آخر أيام شهر رمضان وما تلتها من بداية أيام شهر شوال من عام 1319هـ - 1902م، حيث يكون فيها القمر ضعيف الضوء، وذلك لأجل أن يكون التخفي عن الأنظار في أشده. مكثوا في الطريق 15 يوماً، حتى وصلوا لأعتاب مدينة الرياض من جهة الجنوب الشرقي عند جبل يُقال له «ضلع الشقيب»، أخبر الشاب «عبدالعزيز» رجاله أن ساعة الصفر ستكون في يوم 5 شوال وأن الخطة ستكون على النحو التالي: الجزء الأول من المعسكر يبقى في نفس المكان (ضلع الشقيب) ومعهم الإبل والأمتعة، وعليهم أن يبرحوا في مكانهم حتى صباح الغد، وجزء ثانٍ يذهبون معه حتى يصلوا إلى أسوار الرياض، وجزء ثالث وعددهم ستة فقط وهو سابعهم يستمرون معه ليقتحموا قصر الرياض المسمى بـ»المصمك»، وذلك بعملية فدائية (كوماندوس).
حرِص «عبدالعزيز» أشد الحرص على أن يكون التحرك في الليل، وأن تكون الحركة سريعة وبدون أحذية؛ تجنباً لقرع صوت الأحذية. قصدوا أحد البيوت المجاورة للقصر يسكنه فلاح يتاجر بالبقر يعرف بـ»ابن جويسر»، دخلوا بيته وألزموا من كان في البيت بالهدوء، ولمّا استقر بهم الأمر واطمأنوا في بيت ابن جويسر، أرسل «عبدالعزيز» للجزء الثاني من المعسكر والذين بقوا عند أسوار الرياض للحاق بهم، انضم الجزء الثاني مع الجزء الثالث من المعسكر وتجمعوا في بيت ابن جويسر، ومن بيت ابن جويسر قفزوا على البيت المجاور ثم تسللوا إلى بيت ابن عجلان، ولسوء الحظ لم يكن ابن عجلان متواجداً في بيته حينذاك، فتحفظوا على من كان في بيته ووعدوهم بالأمان إذا التزموا بالهدوء، واستجوبوهم عن مكان ابن عجلان وعلموا منهم أن ابن عجلان عادة ينام في قصر المصمك، وأن عودته لبيته تكون مع شروق الشمس. رصدوا حركة ابن عجلان من خلال بيته الذي يقع أمام قصر المصمك وترقبوا متى سيهم بالخروج من القصر، وعندما فُتح باب قصر المصمك هبّ الشاب عبدالعزيز ورجاله كالصاعقة على ابن عجلان في اشتباك شرس وعنيف، كان حصيلته مقتل ابن عجلان وبعض حرسه، وبمقتل ابن عجلان والاستيلاء على قصر المصمك انتهى كل شيء وانتهت معركة استرداد الرياض في لحظات، عندها صاح من ينادي فوق برج المصمك ويبشر الناس بأن: الحكم لله ثم لعبدالعزيز. التحق الجزء الأول من المعسكر وهم الذين معهم الإبل بـ «عبدالعزيز» ودخلوا الرياض دون قتال، وهكذا نجحت خطة الشاب عبدالعزيز في تجنيب التقاء الجيشين وجهاً لوجه وتجنيب الاقتتال والخسائر في الأرواح.
كان هذا اليوم المجيد هو يومٌ تضاعفت فيه فرحة أهل الرياض إلى عدة أفراح، فرحة العيد ذاته، وفرحة بقدوم عبدالعزيز على أهل الرياض، وفرحة بدخول عبدالعزيز قصر المصمك، وفرحة بتوليه حاكمية الرياض، وفرحة بانتهاء المعركة من دون سفك كثير من الدماء، وأكبر من ذلك كله هو فرحة عامة بعفو عام أطلقه الشاب عبدالعزيز لكل أهالي الرياض بمن في ذلك العفو عمن كان نصيراً لابن رشيد، لقد كان عبدالعزيز وقتها شاباً لكنه مفعم بحكمة وعطف الكبار، وهكذا غمرت الفرحة والسعادة والبهجة أهالي الرياض، وكان ذلك اليوم من أسعد اللحظات التي مرت عليهم، وتبادلوا وقتها أطيب التهاني وأسعد التبريكات.
قصر المصمك الذي كان مسرحاً لأول معارك الملك عبدالعزيز وهي معركة استرداد الرياض عام 1902، ومنه انطلقت مسيرة توحيد البلاد
هذه المعركة وردت في كثير من المراجع بشكل مفصل، وكل حدث من أحداثها يستوجب الوقوف عنده وإعادة تأمله، وتأمل عبقرية عبدالعزيز فيه، لكن الأمر الذي سنتوقف عنده قليلاً هو قصة الخطاب الذي بعثه والده الإمام عبدالرحمن قبل معركة الرياض.
أثناء ما كان الشاب «عبدالعزيز» مخيماً في الجافورة وأطال مكثه فيها وصل خطاب من أبيه الإمام عبدالرحمن يدعوه فيه للعدول عن استرداد الرياض، ضاق صدر الشاب عبدالعزيز وتكدر خاطره، وظل مع نفسه يتساءل وهو محتار، هل أرجع وأكون أطعت أمر والدي، أم أستمر فيما عزمت عليه نحو استرداد الرياض، هذه الحيرة وهذا التردد لم يستمر كثيراً لما وجده في داخل نفسه من عزيمة الشباب المتلهف لدخول التحديات.
رغم أن الشاب عبدالعزيز تكتم عن تفاصيل خطته إلا أنه لم يُخفِ عن رجاله فحوى ومضمون خطاب والده، وقال لهم إني ماضٍ لما عزمت عليه، فمن أراد أن يلتحق معي فله ذلك، ومن أراد أن يعود للكويت فله ذلك. الغريب، أنه عندما قرأ عليهم الخطاب وشاهدوا قوة عزمه وتصميمه، تضاعفت همة رجاله عما كانوا عليه وزاد إصرارهم على المضي قُدماً نحو استرداد الرياض، وكأن الخطاب حمسهم وأشعل فيهم روح التحدي أكثر مما أوهن عزيمتهم، وهكذا مضوا إلى حيثما خطط له الشاب عبدالعزيز ولم يتخلف عنه رجل واحد من رجاله الستين، وكان النصر في نهاية المطاف هو حليفهم.
وإن كان إقدام الشاب عبدالعزيز لاسترداد الرياض يبدو مخالفاً في ظاهره لتوجيهات والده الإمام عبدالرحمن، إلا إن والده الإمام أشاد بأن آراء ابنه عبدالعزيز مسددة، وفي هذا يروي حافظ وهبة أنه لمّا كان مجالساً للإمام عبدالرحمن، لاحظ أن الإمام لا يرد على رسائل ابنه عبدالعزيز التي يطلب فيها توجيهه، فسأله حافظ: «لماذا لا ترد على خطابات ابنك عبدالعزيز، فقال الإمام: إن عبدالعزيز رجل موفق، فقد خالفناه مراراً وتبين لنا أنه مصيب ونحن مخطئون».
ولعلي أختتم بنصيحة أبوية من والدنا الملك عبدالعزيز موجهة لعموم الأبناء بأن لا يكتفوا بالمشي على خُطى الآباء، بل عليهم أن يزيدوا في عدد الخطى وفي همة الإنجاز، ودليل ذلك أنه عدّل بيت القصيد المشهور: نمشي كما كانت أوائلنا تمشي ونفعل مثل ما فعلوا، إلى القول: نمشي كما كانت أوائلنا تمشي ونفعل فوق ما فعلوا، فبدلاً من قول الشاعر: مثل ما فعلوا، عدله إلى: فوق ما فعلوا، وهكذا ترجم الشاب «عبدالعزيز» معنى البيت الشعري المعدل إلى حقيقة معاينة على أرض الواقع، وفعل أفعالاً تفوق عما يطمح إليه والده.
هذه النصيحة الأبوية من الملك عبدالعزيز مشى عليها أبناؤه من الملوك والأمراء من بعده، فكل ملك يتولى الحكم يأتي بإنجازات جديدة وغير مسبوقة حتى تولت تلك الإنجازات تبعاً، حتى جاء عهد الملك سلمان وعهد ولي عهد الأمين محمد بن سلمان وانتقلت البلاد إلى عصر من التنمية والتطوير تضاهي ما عليها الدول العظمى بل تتفوق عليها في ظل رؤية 2030.