أ. د.عبد العزيز بن محمد الفيصل
في اليوم الوطني يحضر الوفاء للوطن ماثلاً أمام العيون، ألم نشرب من ماء الوطن ونأكل من حبوب الوطن من بُرِّ وذرة ودخن، بلى وهبنا الوطن أكثر من ذلك فنخيل الوطن تمرها غذاء وليفها حبال وسلال وخوصها فرش وكربها حطب، عاشت الأجيال في الجزيرة العربية على ما تنتجه أرضها، فالمراعي مشاعة وهذا عرف قديم، فالأغنام والإبل والخيل والحمير ترعى بحرية والمياه مشاعة للإنسان والحيوان الأهلي والبري، والصيد متاح لمن لديه القدرة، فالألبان واللحوم والحبوب والتمر غذاء أبناء هذا الوطن ولا ننسى السمك فهو غذاء لسكان السواحل. أجيال مرت ووطأت هذه الأرض وعاشت على خيراتها ثم دفنت فيها، هذه البلاد صحراء مترامية، لا تخترقها الأنهار، وجنوبها ووسطها وشمالها وشرقها قليل الأمطار فمن الطبيعي أن تكون الحياة فيها في شد وجذب بين ابن الجزيرة وأرضه، فإن أخصبت رضي عنها، وإن أجدبت رضي بواقعه وقنع بالقليل عن العيش وبقي فيها على مضض، فحتى الهجرة في أيام الجدب لا يقدر عليها إلا القليل من الناس، فاجتياز الصحراء وهي قليلة المياه ومجاهل موحشة ورمال متراكمة تحتاج إلى راحلة وماء وزاد للطريق ودفع أجر للقافلة التي ينضم إليها المسافر، فالأجر المدفوع لا بد من توافره سواء كان للقافلة أو للدليل، ولذلك فالبقاء في القرية أو في بلاد القبيلة ليس خياراً وإنما هو واقع تفرضه الطبيعة القاسية، ولذلك يبقى الكثير في أيام الجدب وإن أدى البقاء إلى الموت أو ما يقرب منه، فالذين يبقون في بلادهم منهم من لديه القليل من الزاد ومنهم المعدم الذي ينتظر المطر! هي حياة قاسية عاناها أبناء الجزيرة العربية، فالمهاجرون إلى البلاد المجاورة في أيام القحط هم القلة، أما الكثرة فهم الباقون في الجزيرة العربية للأسباب المتقدمة، وتصحب المعاناة أبناء الجزيرة العربية إلى وقت نزول المطر حيث تعشب الأرض وترتوي الأشجار من نخيل وغيرها وتزرع الأرض من بعل وغيره، فمن العادات المألوفة أن الأرض مشاعة فمن أراد زراعتها فله ذلك حيث تكون الزراعة بعلية تسقى بالمطر بدون حفر آبار، وهذا تيسير على من لم يملك أرضاً زراعية. إن الاتصال بين أبناء الجزيرة العربية وبلاد الأنهار المجاورة للجزيرة العربية يكاد يكون معدوماً إلا للقادر، فمجاهل الجزيرة العربية تخيف أهلها فكيف بالبعيد عنها، فمسالك التجارة والجيوش الغازية ثم طرق الحج طرق معروفة للأدلاء من حاد عنها هلك، وهذا هو السبب في بقاء إنسان اجزيرة العربية في أرضه فهو لا يعرف غيرها، فأرض القبائل البدوية معروفة للقبيلة نفسها فإذا تجاوز أبناء القبيلة أرضهم فهم في دار حرب. والقرى المتناثرة في الجزيرة العربية ليس بينها ترابط فكل قرية عليها أسوارها، فآبارها في باطنها وزراعتها في داخل الأسوار، والخارج منها من إبل أو بقر أوغنم فهي تحت المراقبة ولا تتجاوز عشرين كيلاً ثم تعود في المساء، فالمرْقب يشرف على المراعي وبه رقيب حاد البصر وعنده راية فإذا شاهد قطاع طرق شهر رايته وأمالها باتجاه المهاجمين فتخرج النجدة من القرية وتحوز الأغنام أو بعضها إذا كانت المعركة شديدة بين سكان القرية والطامعين في الأغنام أو الإبل. هذه حال الجزيرة العربية، فالإمبراطوريات المجاورة للجزيرة العربية لا تعرف الجزيرة العربية إلا في حالة تهديد أمنها من قبل القبائل العربية فهي تكف أذاها ثم تعود إلى بلادها تاركة سكان الجزيرة العربية للجوع والمرض، فلم يعرف أن إمبراطورية مجاورة مدت يد العون لأبناء الجزيرة العربية في حالة الكوارث عن قحط أو اجتياح مرض.
هذا هو حال الجزيرة العربية قبل قيام دولة قوية رفعت رايتها في قلب الجزيرة العربية هي الدولة السعودية التي كونت لهذه البلاد مكانة لم تعرف من قبل. لقد تحرك الجيران لا لعون هذه الدولة بل لوأدها، فكانت الحروب ثم الغلبة للقوي الذي ترك هذه البلاد شَذَرَ مَذَرَ لتعود إلى أحوالها السابقة، ولكن أبناء الذين كونوا الدولة القوية بعثوها من جديد ليعرف الخصم المجاور أن إمبراطورية الصحراء ندٌّ لإمبراطوريات الأنهار والأمطار المستمرة. لقد عرف الخصم أن إمبراطورية الصحراء وإن كانت قليلة الموارد فهي عنيدة، ولذلك بقيت الدولة السعودية في شد وجذب مع إمبراطورية الأنهار، تتراخى حين يشتد الخصم عليها ثم تعود إلى عنادها فتثبت.
لقد اختلط الحابل بالنابل فلم تعد إمبراطوريات اليابسة هي المسيطرة بل امتدت يد إمبراطوريات البحار والمحيطات بسفنها العائمة إلى كل بقعة في الأرض، وطمعت إمبراطوريات البحار في إمبراطوريات اليابسة، فكانت فرصة الدولة السعودية التي أصبحت ترقب عراك الإمبراطوريات في البحار المجاورة لها. في هذه الظروف الحرجة كان الشاب عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي يتهيأ للانقضاض على مدينة الرياض التي سيطر عليها من كان يداً لإمبراطورية اليابسة في قلب الجزيرة العربية، وقد أثمرت الخطة الحربية فعادت الدولة السعودية إلى عنادها ووقوفها أمام قوة إمبراطورية اليابسة. لقد كان الأمير عبدالعزيز وفياً لبلاده فلم ينسها بل كان يرقب الأحداث من بعيد حتى تهيأت الفرصة فاقتنصها واستثمرها أحسن استثمار فكانت اللبنة الأولى في بناء حاضر الدولة السعودية. كان فتح الرياض الخطوة الأولى في حروب دامت ثلاثين عاماً، تكللت بتوحيد أجزاء الجزيرة العربية واندماجها في دولة قوية هي المملكة العربية السعودية، وقد اهتم الملك عبدالعزيز بالحرمين الشريفين في مكة والمدينة فكان يشرف على تنظيم الحج بنفسه فيستقبل الحجاج ويتفقد الطرق ويهتم بخدمة الحجاج وتوفير الماء لهم في منى ومزدلفة وعرفات، ولم ينس الملك عبدالعزيز التعليم الحديث ففتحت المدارس الحديثة في آخر حياته حيث ساعده النفط على نفقات التعليم، وكان لاكتشاف آبار النفط الأثر الكبير في تعبيد الطرق وتوسع التعليم وتوافر العيش وارتقاء مستوى المعيشة. وينصرم حكم المؤسس والمملكة في عزها وقوتها، ويستمر العز وصيانة الدولة في حكم الملك سعود وحكم الملك فيصل وحكم الملك خالد وحكم الملك فهد وحكم الملك عبدالله. وتؤول الأمور إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان فينطلق التحديث وتتعاطى الدولة مع دول العالم كافة في ندية لا تعرف التبعية حيث الاقتصاد القوي والسمعة الحسنة.
أدام الله لهذه الدولة عزها وشموخها لخدمة الوطن العزيز وإسعاد أبنائه الأوفياء لوطنهم تحت راية سلمان بن عبدالعزيز الملك المبجل خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان صاحب الرؤى الصائبة.