مشعل الحارثي
ونحن نعيش هذه الأيام أفراح يومنا الوطني المجيد في ذكراه الـ(93) وتحت شعاره الجديد والمحفز (نحلم ونحقق) توقفت ملياً أمام مقولة محفزة وتجربة طموحة رغبت أن أستعرضها بهذه المناسبة وأسبر أغوارها وأبعادها وأربطها بما نعيشه اليوم في بلادنا المملكة العربية السعودية وما حققته من مكانة عالمية مرموقة وقفزات وطفرات غير معهودة على كافة الأصعدة.
أما المقولة فهي للأديب والمفكر والفيلسوف العربي اللبناني الأصل ميخائيل نعيمة وفيها يقول:
(الغرب رمز الطموح والشرق رمز القناعة) وإن كانت هذه المقولة في ظاهرها موجعة وتدعو للأسى والحسرة على واقعنا العربي المؤلم وأنه لايزال يراوح في مكانه وإن صدقت وعبرت عن مرحلة من مراحل تاريخ بلدان الشرق العربي والفترة التي عاش فيها هذا الفيلسوف الراحل وقت أن كانت أغلب البلدان العربية ترزح تحت نير الاستعمار الغربي وتكتوي بنيران الأهواء والمطامع والاضطرابات والتقلبات السياسية إلا أنها لازالت وبعد رحيل قائلها وحتى الآن وللأسف في تشرذم وتقزم وفي أزمات تتلوها أزمات ونكسات تتبعها نكسات.
وقائل تلك المقولة وكما أشرنا هو الفيلسوف والناقد الأدبي المعروف والمحب للعربية وللعرب وعندما أطلق هذه المقولة أطلقها متحسراً ومحفزاً في نفس الوقت للأجيال من الشباب الذين يمثلون أسّ البناء وروح العطاء ليكونوا على مستوى التحدي والمنافسة ومستفزاً فيهم الهمة والعزيمة ليصونوا أوطانهم والأمة والدين والمجتمع ويكونوا أنداداً لغيرهم لا ظلاً تابعاً لهم وكما قال الشاعر أحمد شوقي مخاطباً الشباب:
شباب قنع لا خير فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا
شباب ذللوا سبل المعالي
وما عرفوا سوى الإسلام دينا
وسبق أن قيل بأن من لا يملك الطموح والرغبة في التميز والتفوق هو بلا شك خارج أسوار الحياة المعاصرة التي أصبح لها مفاهيمها ورؤيتها الواسعة للمستقبل ومتطلباتها المختلفة عن طبيعة ومتطلبات الماضي، ولأن الشباب القانع وغير الطموح لن يحقق لنفسه ولوطنه ولأمته شيئاً.
وتداعياً مع مقولة ميخائيل نعيمة فإن تجربة المملكة العربية السعودية ومنذ توحيد أرجائها على يدي المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود غفر الله له وأبنائه الملوك من بعده تجربة تختلف عن بقية الدول العربية وأعطت مثالاً ونموذجاً حياً لقوة العزيمة والطموح وكان من أكبر النعم التي حظيت بها إضافة لاحتضانها أقدس بقعتين على وجه الأرض الحرمين الشريفين أن أراضيها ولله الحمد لم تتعرض للاستعمار الأجنبي، واستطاعت بعزيمة قادتها وملوكها الأفذاذ ورجالها المخلصين وفي وقت قياسي أن تحقق المعجزات التنموية على أراضيها وتوفر الحياة الكريمة والآمنة والمستقرة لمواطنيها الذين جمعتهم بقيادتهم روح المحبة والتقدير والوفاء والتضحية والفداء. أما التجربة الطموحة فهي تذكرنا بالإرادة الصلبة للبحار ريستوفرکولومبوس مكتشف أمريكا.
عندما قدم طلباً لحكومة بلاده لتمويل رحلته من الغرب إلى الشرق لاكتشاف جزر الهند والتي كانت عبارة عن معظم دول شرق آسيا المعروفة كالهند وبورما والصين واليابان وملقة وإندونيسيا..
وللنظر في طلبه عقدت لجنة (تالافيرا) اجتماعاً وبعد بحث طويل أصدرت تقريراً حول هذا الطلب قالت فيه: «إن الإبحار من الغرب إلى الشرق لا يرتكز على أسس متينة وتحقيقه يبدو أمراً مستحيلاً في نظر أي رجل مثقف»، ثم علقت الكنيسة أيضاً على هذا الطلب قائلة إنه لو كانت هناك أراضٍ غير التي يعرفونها لكتب عنها الله في الإنجيل وما كان ليخفيها عن عباده.
ومع ذلك لم تتوقف محاولات كولومبوس عند هذا الحد، ففي عام 1476 تجسد الجنون في نظر المجتمع الإسباني في شخصية كولومبوس عندما طلب أن يتم تمويله بأسطول بحري ومئة بحار ليباشر مشروعه، وكان الناس يرددون الخرافة التي تقول: (على الإنسان أن لا يغضب القدرة الإلهية بسعيه إلى سبر غور الأعماق المجهولة في المحيط).
وبهذا استقبل المجتمع طموحات البحار كولومبس معتبرين أنه رجل أحمق يريد أن يبحر إلى المجهول بلا هدف، وبعد عشر سنوات من المحاولات والالتماسات استطاع كولمبس أن يقنع حكومة بلاده بتمويل رحلته..
لكن لم تكن تلك عقبته الوحيدة فالعواصف البحرية والأمطار والرياح العاصفة وإعياء البحارة وتدمر السفن والضياع وسط المحيط كلها أمور واجهها بقوة وتحمل وصبر، وقد كتب عن إحدى رحلاته في مذكراته قائلاً: «وقفت السفن معرضة لعوامل الطقس بأشرعتها الممزقة، وقد فقدت مراسيها وأجهزتها وحبالها وزوارقها وقسماً كبيراً من مؤنها، كما أنهكت قوى الرجال وتدلت أفواههم إلى درجة جعلتهم يتمتمون طوال الوقت ويقسمون على أن يغدوا تقاة صالحين, لقد كنت مريضاً ووقفت مراراً على عتبة الموت لكنني كنت أصدر الأوامر من المكان الذي أرقد به».
هذه المصاعب كلها كانت ذا تأثير عكسي فبدلاً من تثبيط همته كانت تزيد من إرادته وتجعله يواصل الإبحار أكثر فأكثر حتى انتهت باكتشافه لقارة أمريكا - ظناً منه أنها جزر الهند - وقد أسماها بالعالم الجديد الذي أصبحت امريكا وبعد هذا الاكتشاف تحتفل سنوياً بذكرى مولده وفي أول جزيرة وطأتها أقدامه (سان سلفادور).
ومن استعراض تلك المقولة والتجربة ندرك بأن وجود الحلم لا يكفي إن لم يقترن بعزيمة قوية وإرادة صلبة ورغبة شديدة في الوصول للهدف وجعل هذا الخيال حقيقة واقعة، وأن الحد الفاصل بين الحالمين والمنجزين هو وضوح الهدف والغاية، وقبل ذلك كله فالحلم يحتاج للدعم من المجتمع وثقة صاحبة وإيمانه الراسخ بتحقيقه.
ولنكن واثقين تمام الثقة بأن التاريخ دوماً يحتفي ويخلد أصحاب الطموح والهمم العالية والأحلام الواعدة ويهمل من حساباته أولئك المحبطين والخانعين وغير العاملين،وسوف يمنح المكافحين والصامدين في وجه الرياح العاتية القوة والتفرد والتجدد والخلود.
دمت يا وطن الأمجاد مرتعاً للأحلام المزهرة وقافلتك تمضي نحو غايات مظفرة ولا يقف أمام تحقيق أمانيك وطموحاتك أي عائق وأنت تنعم أولاً وأخيراً برعاية وتوفيق المولى عز وجل ثم بعطاء ودعم قيادتك الحكيمة الذي لم يعرف التوقف أبداً حتى في أقسى الظروف والتحديات، وسنبقى وبإرادة القوي العزيز وتسديده نحلم ونحقق ما يجعلنا دوماً في القمة والصدارة وفي خدمة الإنسانية.