د. تنيضب الفايدي
اليوم الوطني من أهمّ المناسبات الوطنية، فهو تعبير حقيقي للحبّ الذي يكنّه الشعب العظيم في قلوبهم تجاه بلدهم والقيادة الرشيدة، وتظهر أهميته بأنه يذكّر الأجيال الحالية الإنجازات العظيمة التي قامت بها القيادة الرشيدة ومَن سبقها لتوحيد المملكة وإرساخ قواعد هذا الكيان الشامخ، فهذه الإنجازات الهائلة في شتى المجالات ما هي نتيجة فترة قصيرة، بل نتاج عقود طويلة من العمل الدؤوب والرؤية الثاقبة والعبقرية الفذة للملك الراحل المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود -رحمه الله، ومن أتى بعده من الأبناء والأحفاد، حتى أصبحت من الدول الرائدة المؤثرة في السياسة والاقتصاد العالمي، هذا التاريخ غيّر مجرى التاريخ في الجزيرة العربية كلّها من حالة الضعف والانقسام والتفرق والأميّة وسوء الأمن إلى مجتمع حضاري متطور والتعليم والرخاء والأمن والاستقرار.
إن حبّ الإنسان لوطنه خصلة شريفة، وخلّة رفيعة، وخلق حميد، وأدب سامٍ، كما أن حبّه لوطنه أمرٌ فطري؛ لأنه مسرح أحداث حياته بمراحلها المختلفة، وحياة أجداده، فلا يمكن نسيان الوطن الذي سكن فيه صاحبه وجال في مرابعه، سكنه روحاً وجسداً، وهام به حباً وحنيناً، هام بصحرائه الواسعة، وجباله المتنوعة، وأوديته باختلاف أبعادها، كما هام بسمائه وجمالها، وهوائه بنسيمه ورياحه، ورياضه المزهرة، ومراتعه الممرعة، وخيرات مزارعه، كما أحبّ بحاره بشواطئها الجميلة وسواحلها الساحرة، فكثيرٌ من الصحابة اشتاقوا إلى موطنهم الأول مكة المكرمة بعد ما أُخرجوا منها حيث هاجروا إلى المدينة النبوية بعدما عُذِّبوا في مكة أشد التعذيب، فحنوا إلى أوديتها وجبالها وشوارعها وأسواقها؛ لأنهم قضوا شطراً من حياتهم فيها، فهي وطنهم، حتى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه أن يحبّب المدينة إليهم كحبهم لمكة أو أشدّ من ذلك، فعن عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم حبَّبْ إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها لنا، وبارك لنا في صاعها ومدّها... «. متفق عليه. وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم صلى بأرض سعد بأصل الحرة عند بيوت السقيا، ثم قال: «اللهم إن إبراهيم خليلُك وعبدك ونبيُّك، دعاك لأهل مكة، وأنا محمدٌ عبدُك ونبيُّك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثل ما دعاك به إبراهيمُ لأهل مكة، ندعوك أن تباركَ لهم في صاعهم ومدِّهم وثمارهم، اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حبَّبتَ إلينا مكة»...... متفق عليه. وقد جاء الإسلام ليثبت هذا الحبّ (حبّ الناس لأوطنهم)، فقد بين الله تعالى فضل الوطن بقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}.. البقرة 84.
وهناك شواهد كثيرة في الأدب العربي لهذا النوع من الحبّ، وتلك الأشعار والشواهد التي خلدها الشعراء والأدباء تبهر النظر، وتأسر القلب والروح، وتثير في النفس حبّ المكان، وتخلد حبّ الوطن في أهله، وتولد الاعتزاز به، والوقوف للدفاع عنه والتضحية له، فها هو ابن الرومي وقد عصفت به الأشواق إلى وطنه فكيف يفرط به أو يبيعه أو يتنكر له:
ولي وطنٌ آليت ألا أبيعه
وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدتُ به شرخ الشباب ونعمةً
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبب أوطان الرجال إليهمُ
مآربُ قضَّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقد الفتْه النفسُ حتى كأنه
لها جسدٌ إن بان غودر هالكا
كما أن الشاعر يتنقل بين بصرى وحمص وبعلبك، لكن موطنه (حرار المدينة) أحبّ إليه منها كلها:
لعمرك للبلاط وجانباه
وحرة واقم ذات المنار
فجماء العقيق فعرصتاه
فمفضي السيل من تلك الحرار
إلى أحد فذي حرض فمبنى
قباب الحي من كنفي صرار
أحب إليّ من ريح وبصري
بلا شك علي ولا تمار
ومن قربات حمص وبعلبك
لو أني كنت أجعل بالخيار
وقد عبّر بعض الشعراء ذلك الحبّ بشعر الحنين إلى الديار والوطن والأرض، ويزداد الحنين ويتغلغل الشوق ويغلب البكاء إذا ابتعد المرء عن تلك الديار، ويتذكّر الأهل والأحباب والأمجاد، قال الشاعر:
العينُ بعدَ فِراقها الوَطَنا
لا ساكِناً ألِفَت ولا سَكَنا
رَيَّانةٌ بالدَّمع أقلقَها
ألا تُحسَّ كرىً ولا وَسَنا
كانت تَرى في كلِّ سانحةٍ
حُسناً وباتَت لا تَرى حَسَنا
والقلبُ لولا أنَّةٌ صَعِدَت
أنكَرتُه وشَكَكتُ فيه أنا
ليتَ الذينَ أحبُّهم علِموا
وهمُ هنالكَ ما لقيتُ هن
ما كنتُ أحسَبُني مُفارقَهم
حتَّى تفارقَ روحيَ البدنا
إن ذكرى اليوم الوطني يثير ويغرس في النفس حبّ المكان، ويولد فيه الاعتزاز به والوقوف للدفاع عنه والتضحية له بكلّ غالٍ ونفيس، كما ينشر في أهله الوعي حول ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، وذلك بالوقوف خلف القيادة وبالمحبة والسلام والتآخي فيما بينهم، وتتحول المواطنة بذلك إلى فعل وسلوك وأخلاق، كما تعمل على اكتساب المعارف والقدرات والقيم والاتجاهات لدى الطلاب والطالبات، بل وكلّ مواطن ومواطنة في أيّ موقع من أرجاء الوطن، إضافةً إلى إيجاد الروابط المتينة بين المبادئ الأخلاقية والقيم الوطنية ومهارات الحياة المعاصرة بكلّ مكوناتها.
إن اليوم الوطني يحقق التماسك والاندماج والتواصل وقوة الترابط بين أفراد الوطن، ليشكل ذلك نسيجاً واحداً مما يعطي الوطن الهوية التي تتميز بالقوة والمهابة، كما أن ذكرى اليوم الوطني بكلّ عناصره ومؤسساته ترسخ مفهوم المواطنة وتذكر المواطن ما عليه من واجبات وحقوق تجاه الوطن، وكلها تهدف إلى تعزيز الفرد بالانتماء إلى مجتمعه، ووطنه، وقيمه ونظامه، وبيئته الثقافية، وتركز على القيم العليا مثل الأمانة والصدق، والإيثار، وتطبيق الخلق الرفيع في التعامل واحترام الآخرين بما في ذلك حقوق الوالدين واحترام آراء الآخرين، وأداء الواجبات، والتمسك بحقوق والإيمان بوحدة الوطن، المملكة العربية السعودية، ويحمي إنجازات ومكتسبات الوطن، والمحافظة على استقراره. إن اليوم الوطني نقطة انطلاق متجددة لتأكيد حبّ الوطن والذي يكون بالعمل والبناء والتعمير.