أ.د.محمد بن حسن الزير
بعد أن انفرط عقد الأمن بعد غياب الحكم السعودي بانتهاء الدولة السعودية الثانية بسبب نشوء الاختلافات بين بعض أبناء الإمام فيصل بن تركي بن عبد الله، بعد وفاته، إيذاناً بغياب الدولة السعودية وحكمها لمدة عشر سنوات قبل أن يُعيدها سيرتها الأولى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود منذ استعادته للعاصمة الرياض في الأيام الأولى لعيد الفطر المبارك بعد إتمام صيام شهر رمضان المبارك عام 1319هـ الموافق 1902م، كانت البلاد تعيش حالة من الفوضى والحروب واضطراب الأمن وسوء أحوال الناس من حيث عدم الإحساس بالسلام والطمأنينة والاستقرار؛ فقد شهدت السنوات العشر التي فصلت بين غياب الدولة السعودية وعودة فجرها الساطع ثانية على يد القائد المظفر، والحكيم الملهم الملك عبد العزيز، فصولاً بائسة من الخوف والجوع، وأحداثاً قاسية تعرض لها الأفراد والجماعات هنا وهناك في أرجاء البلاد.
ولقد أراد الله بهذه البلاد وأهلها خيراً عظيماً، حين قيّض الله (فتى) من عمق هذه البلاد (ديناً) و(تاريخاً) و(أرضاً) وانطلق (بنية صالحة) انطوى عليها قلبه، وانفعل بها ضميره الحيي الذي استيقظ (منذ نعومة أظفاره) على مشهد مأساوي تعيشه بلاده وأهلها، فساورته هذه النية، وأنعشت في روحه الوثابة (رغبة عارمة وإرادة صلبة وعزيمة قوية وحزم صامد) لإعادة الأمن المفقود، واستعادة الزمن السعيد، والرخاء المديد المنشود، وجعلته هذه النية يهيئ نفسه لهذه (المهمة العظيمة) شعوراً وهمة، وتطلعاً لمستقبل يرقبه ويسعى بجد لتحقيقه، وإعداداً لنفسه وروحه المعنوية بتقوية إيمانه بالله، وتوكله عليه واعتماده على حول خالقه المالك المتصرف وقوة ربه الفعال لما يريد، المذل لمن يشاء والمعز لمن يشاء وهو على كل شيء قدير.
كان ذلك الفتى هو (عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود) الذي أشرقت شمس ميلاده في الرياض عام 1293هـ، ونعم بحياته في أيامه الأولى في كنف والده الإمام عبد الرحمن الذي اعتنى بتنشئته وتعليمه القراءة والكتابة وقراءة القرآن الكريم ودراسته، ودراسة الفقه والتوحيد على أيدي رجال متخصصين مخلصين، كما كان في صباه المبكر يتلقى تدريبات في مجال استخدام البندقية، واستعمال أدوات القتال، واعتياد ركوب الخيل، وارتحال الجمال؛ مما هيأ له تكويناً (إيمانياً وعلمياً وفكرياً وعملياً) مبكراً أهله لحمل ما كان ينتظره من أحمال ثقال وأعباء جسام، ومكَّنَّه من كتابة فصول رائعة من كتابة الدور الجديد، الثابت المستقر لدولة بلاده الحديثة الراسخة المجيدة، التي فرضت وجودها وتأثيرها واحترامها في أعماق أهلها، وفي أقطار أهل الأرض في أنحاء الدنيا.
توفي الإمام (فيصل بن تركي) عام 1282هـ، وأعقبت وفاته (فتنة وتفرق) أدى إلى (ضياع الدولة) في أواسط عام 1308هـ؛ حيث تنقّل (الإمام عبد الرحمن بن فيصل) بعض الوقت في البادية، ومعه ابنه الفتى (عبد العزيز) قبل أن يحط رحاله في الكويت التي كانت محطة انتظار واستعداد للفتى المترقب للحظة (العودة والاستعادة) الذي أمضى وقته هناك شحذاً للهمة، وإعداداً للنفس إعداداً معنوياً وثقافياً للمهمة التي تأخذ في نفس عبد العزيز كل أقطارها؛ هما واهتماماً، ووعياً وإدراكاً، وفي الوقت نفسه كان والده مشغولاً بولده يرقبه ويراقبه، في حركاته وتصرفاته، في أيامه في الكويت، وقد حدثني من حدثه وهو شاهد عيان مباشرة، وهو الراوي لإحدى قصص انشغالات الإمام بابنه في تلك الأيام، واهتمامه بمراقبته والعناية به؛ أنه كان من شأنهم أنه بعد أن ينفض المجلس في الكويت، بعد العِشاء، وكان ممن يحضره الإمام وابنه، وإذا انصرف الحاضرون؛ كلُّ إلى شأنه، ومنهم الفتى عبد العزيز، وهنا يقول الراوي (وهو أحد رجال الإمام): أن الإمام الوالد، كان قد كلفني ، أن (أراقب) عبد العزيز، وأن أخبره إلى أين يذهب، فتوليت الأمر، تنفيذا لأمره وأخذت أتبع الابن، حين انصرافه، دون أن يشعر، فإذا هو بعد أن ينفض السامر، يمضي إلى الخلاء خارج البلد، حتى إذا وجد خبتا من الأرض، وهو المكان المنخفض، اختلا فيه وشرع في الصلاة ودعاء الله، والتضرع إليه، في تخضع وتذلل، وإلحاح في الدعاء، وسؤال الله العون والتوفيق والتأييد والنصر، وأن يحقق له ما كان يصبو إليه من العودة إلى وطنه ظافراً منصوراً، وأن يستعيد للبلاد ما فقد من أمن واستقرار، في ظل حكم الله وشرعه، وبعد أن يقضي ما شاء الله له من صلاة وتضرع ودعاء، يعود إلى مقر مبيته، وقد بقيت أفعل ذلك ثلاثة أيام، وبعد أن استقر عندي حال عبد العزيز تلك، ذهبت إلى الإمام وقلت له: « اطمئن على عبد العزيز!» وأخبرته بما كان من شأنه، طيلة الأيام الثلاثة؛ من ذهابه إلى الخلاء وما يفعله من صلاة ودعاء؛ فحمد الله ودعا.
لقد هيأ الله - عزَّ وجلَّ - بفضله ومنه (عبد العزيز) من خلال (تجارب الحياة) المتنوعة خلال المراحل الزمنية التاريخية؛ منذ صباه المبكر في الرياض في كنف إمارة أبيه من تعليم وإعداد، ثم رحلته في البادية، واكتساب خبراتها؛ ومنها السفر على ظهور الجمال وعنائها ومشقاتها، ثم اغترابه في الكويت، ثم هيأ الله له أن يستفيد من تلك المراحل الحافلة بأنواع التجارب والخبرات، واكتساب المزيد من الوعي والمعارف والاحتكاك بالعالم الخارجي بكل ما يحفل به المجتمع السياسي والثقافي من تجارب وخبرات، وانفتاح على العالم الدولي الخارجي، وكان كل ذلك مَعِيْنَا ثرا نهل منه الفتى الذكي الألمعي المشغول بهمومه الكبيرة، وآماله الجسام، التي كان يشحنها ، أيضا، ما كان يسمعه من فصول التاريخ المجيد لأسلافه العظام؛ مما يرويه له بعض أقاربه، ومن غير أقاربه من الأشياخ والرجال المسنين، فيشعل فيه ذلك السماع روح الحماسة، وأشواق الحنين› والتطلع إلى سرعة العودة إلى الوطن، وتحقيق ما يعتلج في نفسه من أهداف سامية وطموحات كبيرة.
وبعد مضي ما يقارب السنوات العشر من مغادرة الرياض، كان الفتى (عبد العزيز) ذو الخمسة والعشرين عاما، ومعه رجال أفذاذ مخلصون، يجوب الفيافي والقفار، في طريق العودة والاستعادة، يكمن نهارا، ويغذ السير ليلا، ويكتبون قصة ملحمة بطولة وفداء وتضحية فريدة، إلى أن قارب مدينته الغالية (الرياض) في أواخر أيام شهر رمضان المبارك، ومع إطلالة عيد الفطر المبارك، وفي صبيحة اليوم الخامس من شهر شوال من عام 1319هـ، الموافق للخامس عشر من شهر يناير من عام 1902م، كان المنادي يصدح بصوته من أعالي شرفات قصر (المصمك) في الرياض معلنا للجميع بأن الحكم لله، ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن، بعد أحداث قصة بطولة ملحمية مجيدة ترويها الأجيال بعد الأجيال.
وانطلق عبد العزيز منذ ذلك اليوم، ومعه رجاله المخلصون الأوفياء، في رحلة جديدة (جدية مضنية من العمل الشاق) لا يهدأ له بال، ولا يغمض له جفن، يصول ويجول، في جنبات البلاد، في جهاد واجتهاد، وتضحية وفداء، وصبر وعناء، وعمل فذ يتبعه عمل فذ، يلملم أطرافها وينفعها، ويوحد قلوب أهلها ويجمعها، وينشر التعليم فيهم، ويوطن البادية في مرابعهم، ويقضي على الجهل، ويحارب أشكال التخلف، ويحقق الأمن والأمان، وينشر التنمية والتحديث والرخاء، ويبني مؤسسات الدولة، في سلام واستقرار، إلى أن استكمل وحدة أرجاء البلاد و توحيدها ، وجمع شملها، من أقصاها إلى أقصاها، ومن شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها تحت راية واحدة، هي راية العقيدة والتوحيد الخالدة (لا إله إلى الله محمد رسول الله) وفي ظلال نور العلم واليقين، وفي ضوء شريعة القرآن والسنة، تسير في دروب التطوير والتحديث المحمود، وتوج ذلك الكفاح العظيم بإعلان اسم (المملكة العربية السعودية) في عام 1351هـ الموافق لعام 1932م.
لقد أنعم الله على هذه البلاد وأهلها بأن يسر لها هذا الرجل الموفق، والقائد الفذ، والفارس الشجاع، والسياسي المحنك، صاحب الفكر السديد والرأي الرشيد، والراعي الصالح، والملك المؤمن، والحاكم العادل، والمسلم المتواضع، صاحب العقيدة واليقين؛ الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيب الله ثراه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- فقد كان نعمة كبرى على البلاد والعباد والمقدسات، التي أمن سبلها، وسهل دروبها، وعبد مسالكها، لكل حاج ومعتمر وزائر من المسلمين من أدنى الأرض إلى أقصاها، ونعم أهل هذه البلاد بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى؛ فقد أطعمهم الله من جوع، وآمنهم من خوف، وجمعهم، على كلمة الإسلام ومنهجه، وأكرمهم قيادة وشعبا بخدمة الحرمين الشريفين، والمشاعر المقدسة في بلادهم، وخدمة ضيوف الرحمن، يكرمون وفادتهم، ويسهلون أداء عبادتهم، ويعينونهم على قضاء نُسُكِهِم.
وقد تواصل بره - طيّب الله ثراه - بهذه البلاد وأهلها، وبالمسلمين قاطبة، بتواصل بر عقبه على البلاد والعباد، وقيام أبنائه البررة الكرام، وأحفاده الأوفياء الأمناء، بمواصلة السير على نهجه، والمحافظة على ما حققه من أعمال ومنجزات، والمحافظة على السعي الدائم نحو الأمام في طريق النمو والازدهار، والتقدم والابتكار.
والحمد لله حمداً لا ينقضي، والشكر له بعد الشكر، والثناء الحسن بعد الثناء على نعمه المتواترة، وآلائه المتكاثرة، ثم نهنئ قيادتنا الحكيمة، بهذه الذكرى الثالثة والتسعين لتوحيد الوطن العزيز متمثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز - حفظهما الله ورعاهما- والتهنئة موصولة للشعب السعودي الكريم.
ودام عزك يا وطن!