م. بدر بن ناصر الحمدان
يقول الكاتب الشهير إيرنست همنغواي «لا أحد ينام في مدريد حتى يتأكد من بزوغ نور الصباح»، هذه الرمزية الأدبية الراقية لم تأت من فراغ، بل من واقع مشَاهد ومعاش، فالعديد من المدن على مستوى العالم لا تبدأ أنشطتها إلا بعد منتصف الليل، وتحمل بداخلها عنواناً للمدن التي لا تنام، ثمة مسافرون يفضلون هذا النوع من الوجهات السياحية، فحتماً ليس الجميع يخلد إلى النوم مبكراً ويستيقظ مع شروق الشمس، فهذه الفئة من الناس تمثل المرادف الأمثل لعشاق الليل وسحره وجماله مهما اختلف الزمان أو المكان.
لطالما ارتبطت مفردة «سياحة الليل» في صورتها الذهنية لدى الكثير من الناس بالمدن الصاخبة والتي عادة ما تضفي إلى ممارسات وأنشطة سلبية قد تتعارض مع ثقافة الآخرين وسلوكياتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وربما طغت هذه الفكرة السوداوية على كثير من المدن التي لم تستطيع حتى الآن أن تتجاوز تلك المساحة الضيقة إلى أفق أبعد من خلال أفكار مبتكرة وغير تقليدية.
في النسخة المحلية يمكننا القول إن المدن السعودية بطبيعتها ذات مناخ صحراوي يفرض عليها أن تكون في أغلب فترات العام جافة ومشمسة ومفرطة الحرارة وذات نهار طويل وليل قصير، لذلك غالباً ما تكون هي الأحوج إلى أن تنضم إلى نادي المدن التي لا تنام، وذلك لتمكين الاستثمار الأمثل من الميز النسبية والتنافسية لـ «ليل الصحراء» ولما تبقى من ساعات يومها التي عادة ما تمر في ظروف طقس لا تسمح لها بممارسة الأنشطة في الفضاءات العمرانية المفتوحة سواء داخل المدن أو خارجها، كل هذه الساعات الافتراضية الإضافية هي في الأصل عبارة عن إضافة مسارات اقتصادية جديدة، وتحفيز لاستثمار أمثل لموارد البنى التحتية المتاحة.
أعتقد أن المدن السعودية لديها فرصة كبيرة لتقديم نموذج عالمي جديد أكثر هدوءًا وإيجابية نحو ما يسمى بـ «سياحة الليل»، كمثال محتذى للسياحة النظيفة والمحافظة والتي تحترم الأطر الأخلاقية للمجتمع، وتوفر حزمة من الأنشطة السياحية الليلية المتنوعة والفريدة والتي قد لا توجد في مكان آخر على مستوى العالم، وتسهم في تطوير السلوك الاجتماعي، وتعزيز التربية الحضرية لدى الأفراد، وتهذب الذوق العام، وتتبنى خلق منظومة اقتصادية محلية متنوعة وقادرة على إعادة اكتشاف ما بين أيدينا من مقدرات وممكنات ظلت كامنة لسنوات مضت.