حسن اليمني
إن كان ما من شك في أن السيادة للقوة وأن الحقوق خاضعة لوجهات النظر في مدى هذه القوة وارتداداتها منافع ومضار فإن التنافس لزعامة القوة في العالم هي الحرب المستمرة في الخفاء بين الأمم، وإذا كانت الأمة الإسلامية ذات التاريخ المجيد قد تجاوزتها قوى أممية أخرى لعدة قرون فإنها اليوم قادمة بخطى وئيدة وصلبة لتظهر على السطح العالمي.
مما لا شك فيه أن القوة لا تقتصر على الآلة العسكرية فقط وإنما يدعمها ويسندها اقتصاد وسياسة وميزان مصالح وثقافة وإرث كقوى ناعمة تشكل الأرضية الخصبة أو المربع المؤثر في دائرة التأثير العالمي، واليوم وبعد مرور قرن من الزمن على نهاية الاستعمار الإمبريالي لأغلب الدول الإسلامية من قبل دول غربية وشرقية وبتململ الاستعمار الخفي للفكر والثقافة الذي كشفه وأظهره التعليم بمستوياته ثم انتشار المعلومة والتحاور والتبادل الفكري والثقافي والاجتماعي من خلال وسائط الاتصال في الشبكة الإليكترونية أصبح من الطبيعي أن تستعيد الدول الإسلامية كثيراً من خصائص إرثها وتاريخها وتسعى لدعمه وتقويته، أما وإن أدوات الدعم والقوة في العلم والفكر والابتكار من خلال الرسم والتخطيط والبناء وهو ما توفر لدول العالم الإسلامي تحصيل من القرن المنصرم فإننا ندخل قرناً جديداً مختلفاً بالتأكيد عن سابقه وقد تخلصنا من الجهل والتخلف والضعف وحالات التمزق والتغطية بقوى أجنبية من أجل البقاء ودفع الأذى لنصبح اليوم أصحاب صوت مسموع وموقف فاصل مؤثر على موازين القوى في العالم.
نعود الآن للقوة وأدواتها الآلية في الثروة والتصنيع وروحها في الثقافة والتاريخ ووجودها في الوعي والطموح وهي بمجموعها أسس القوة وقد صارت متوفرة ومحكومة بإرادة حرة مستقلة في كثير من دول العالم الإسلامي، ومن بديهية القول إن هذا يعني انكماشاً أو تلاشي الفاصل في المسافة بين قوى الأمس واليوم وبين واقع العالم الإسلامي قبل مائة سنة ووقعها الحالي راهن الوقت مع تلك القوى التي كانت مسيطرة ومهيمنة عليها، وإذا كان السلاح النووي هو قمة أسلحة التدمير الشامل فإنه اليوم متوفر للعالم الإسلامي وإن كانت الصواريخ البالستية بعيدة المدى هي الناقلة لهذا السلاح فإنها أيضاً متوفرة للعالم الإسلامي، وإن كانت الأسلحة الإليكترونية والكهرومغناطيسية هي قوة العصر الراهن فإنها أيضاً متوفرة للعالم الإسلامي، القوة الوحيدة التي لا زالت غير متوفرة لدى العالم الإسلامي هي في التوافق والتجانس في المواقف السياسية والرسوم الاستراتيجية بعكس قوى الغرب والشرق النشط في تدعيم وترسيخ هذا التوافق والتجانس والانسجام فيما بينها لتحقيق غايات وأهداف مساراتها بتلاحم وتحالف يتجاوز الأنانية وانفلات سبل الاجتهادات المبعثرة للوصول للغايات والأهداف عكس ما هو الحاصل بين الدول الإسلامية حتى اليوم.
حتى بوجود منظمة التعاون الإسلامي ومن داخلها جامعة الدول العربية إلا أنها لا زالت مجرد محاولات ورغبات لخلق توافق وتجانس دون الوصول إلى مسار ناجح يحقق فعلاً حقيقياً بالتكتل الجمعي لكن مع هذا فإن تكتلاً وتحالفاً بين (أطراف) داخل هذا التجمع الإسلامي موجود ويعطي مؤشر تفاؤل للتوسع بإذن الله، ومن المبشرات في هذا الخصوص تفكك حالات التأزم بين أكثر من دولة إسلامية وإن بقيت بعض الشوائب والعقد في مساراته كحال إيران مع السعودية وتركيا وأذربيجان وأفغانستان وكذلك بقاء المكون الكردي وسط العالم الإسلامي دون ظهور معالجة حقيقية يخرجها من الاستثمار الأجنبي في خلخلة العالم الإسلامي من الداخل عن طريق زعزعة أمن واستقرار الدول التي يتأصل فيها هذا الوجود الكردي في دول مثل تركيا والعراق وسوريا وإيران وبالطبع أيضاً في وجود كيان مصطنع في فلسطين العربية دخيل على المنطقة، هاتان البؤرتان لا زالتا قلاع صد لكل محاولات الإطفاء والتبريد داخل مكوّن المنظومة الإسلامية في حين استطاعت تركيا وباكستان الوقوف بقوة أما اليونان والهند لحماية الحدود وإن بقيت جزر إيجة وكشمير مناطق تسخين مستمر، ثم إن بقاء واستمرار الخلاف في المواقف بين الدول الإسلامية تجاه النقاط الساخنة في الداخل والخارج التي ذكرتها آنفاً لا زالت تعين وتساعد في تعطيل خلق التوافق والتجانس بين الدول الإسلامية ولا زالت منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية عاجزتين عن معالجة هاتين النقطتين بل ولا يلوح في الأفق القريب وحتى المتوسط توجه لحل هذه المسائل مما يجعل القفز عليها ربما صار ضرورة للوصول لأقرب توافق وتجانس لأكثر عدد ممكن من الدول الإسلامية بما يمكن اعتباره نقطة ارتكاز لبناء القوة الإسلامية المستحقة لهذا العصر للذود والدفع عن الهوية الأممية لعالمنا الإسلامي.
في الحلف الغربي توجد نقاط بينية خلافية قابلة للاشتعال لكنها مطمورة تحت حماية المصالح والغايات الأعم وهو ما يفترض بالعالم الإسلامي أن يقلده - والتقليد في النفع نافع - وكذلك الحال في الحلف الشرقي إن جاز وصفه بالحلف إذ بين روسيا والصين نقاط أيضاً قابلة للاشتعال لكنها مطمورة تحت المنافع الأعم، وقد شهدنا كدول إسلامية تحقيق منافع ومصالح رائعة في نقطة تماس الغرب بالشرق في أوكرانيا لكن بشكل متبعثر يخدم القطرية أو الجزئية دون أن تظهر أي محاولة لتفعيل المنفعة لتدعم مسار التوافق والتجانس الجمعي بين الدول الإسلامية، وهي فرصة لا زالت باقية وفاعلة ولعل الانعطافة الأخيرة في العلاقات البينية بين بعض الدول الإسلامية وبعضها يفضي بنا إلى تقارب وتجانس أكثر يعين ويساعد في صناعة حلف إسلامي مفترض ومطلوب.
إذا كانت القوة صناعة وابتكاراً وثروة وقدرة فهي جميعها متوفرة للدول الإسلامية ولم تعد متأخرة في هذه المجالات بل أصبحت الصناعات الدفاعية في بعض الدول الإسلامية ذات كفاءة عالية وحتى تتجاوز مثيلها شرق وغرب كما أن الثراء بالثروات الطبيعية والإرث التاريخي والجغرافي حاز استقلالية وإرادة رفعته ليصبح قوة سياسية واقتصادية مؤثرة في العالم, وفي التقدم العلمي والتقني حقق العالم الإسلامي نقلة نوعية متميزة ومتقدمة وفي الأبعاد الجيوسياسية والديمغرافية تجاوزنا كثيراً من القوى التي كانت وربما لا زالت تصنف بالعظمى، وبالمختصر أصبحنا نملك كل المقومات اللازمة للظهور كقوة عالمية مستقلة ونستطيع بهذا الظهور فيما بعد أن نعود لداخلنا ونعالج تلك البؤر الساخنة ولو من خلال القفز عليها وتجاوزها كما هو معمول به في الغرب والشرق وسيكون هذا بحد ذاته ردعاً وزجراً لحماية حدود العالم الإسلامي من مناوشات القوى المجاورة، وليس المطلوب أكثر من توافق وانسجام في الرؤية والقرار بين حكومات الدول الإسلامية لتحقيق المصلحة العليا للامة الإسلامية.
الأمر ليس وردياً كما نتمنى فنحن اليوم أمام جبهة جديدة يتم تسخينها لخلق صراع آخر يتوازى والموجود في سوريا وأعني به حالة الاستنفار بين أذربيجان وأرمينيا أو بالأصح بين فرنسا وإيران من جهة وتركيا من جهة أخرى وخلط الأوراق أمام روسيا لتصبح ربما صديقاً لتركيا في أرمينيا وعدواً لتركيا في سوريا وصديقة لإيران في سوريا وعدواً لها في أرمينيا، وبالطبع عداوة وصداقة ليس بالمعنى الحرفي وإنما بالدفع الأمريكي أو الغربي عموماً ضد مسار التوجه الإسلامي نحو التحرر التام من براثن القرن الماضي، وهي عقدة جديدة قد تنسف كل مخرجات التصالح في الفترة الماضية القريبة إن وصل الأمر إلى حرب ضد إيران تحل فيه تركيا محل الكيان الصهيوني في ما لو تجرأت إيران في دعم أرمينيا ضد أذربيجان على أن الوضع إلى حد الآن لا زال تحت السيطرة ويحتمل أن تسعى روسيا لإطفاء هذه النقطة الساخنة في أرمينيا أو المسخنة من قبل الغرب لإشعال المنطقة قرب بحر قزوين والحدود الروسية الجنوبية وذلك بحكم علاقاتها الجيدة مع تركيا ومع إيران لكنها تبقى حالة تفجير مفتعل ومستمر ويتكرر تجاه دول العالم الإسلامي لتعطيل مسارها.