د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
فاتحةٌ أُولى
لعلها من آثار الطفولة المبكرة؛ فرؤيةُ العسكريِّ رمزُ إخافةٍ، وحقُّها أن تجيءَ دلالةَ مهابة، ومرورُه بالجوار تعني وجودَ مشكلةٍ، وحقيقتُها مزيدُ أمن، والأهمُّ هنا انتفاءُ أيِّ لحظةِ تفكيرٍ أغرتْ بعضَ أصدقائنا للالتحاقِ بكليات الجوّ والحرب والأمن ولم تجدْ في ذهنِ الفتى صدىً ولا في الجسدِ مدى.
فاتحةٌ ثانية
وهذه لا علاقة لها بالطفولة بل بالتكوين؛ فلا يذكرُ أنه غشيَ مكتبَ وزيرٍ أو كبيرٍ، أو منازلَهم حين كانوا ممتَّعين بالوهج الرسميِّ والمجتمعيِّ، وألجأته حواراتٌ صحفيةٌ إلى زياراتٍ يتيمةٍ لعددٍ محدودٍ منهم لم تتكررْ ولم تتطورْ، ومايزالُ على موقفه معتزًا بالعلاقاتِ التي بناها على مبدأِ المحبة المتكافئة المجرّدةِ من أيِّ مصلحة.
فاتحةٌ ثالثة
في حواري مع الوزير علي الشاعر -رحمه الله-، وقد حمل لقبَي: «معالي الفريق ومعالي الوزير»، وعمل في العسكرية الصلبة والإعلام المرن سألتُه:
ثقفتَ العسكر فهل عسكرتَ الثقافة؟ وأجاب: نعم.
ومن أبرز النماذج العسكرية العربية التي تولت مسؤولياتٍ ثقافيةً الدكتور ثروت عكاشة؛ فقد تخرج في الكلية الحربية وكلية الآداب والسوربون معًا، وعُرف بشغفِه الأدبيِّ؛ فرسالة الدكتوراه التي قدَّمها كانت عن (ابن قتيبة) واشتهر بترجمته أعمال جبران، وتوليه وزارةَ الثقافة المصرية ورئاسةَ المجلس الأعلى للفنون والآداب في بلده.
فاتحة رابعة
لعل من أبرز العسكريين الذين عرفتهم بوسمهم الثقافيِّ «اللواءين» الكريمين: عبدالقادر عبدالحيّ كمال وعبدالله بن عبدالكريم السعدون؛ فرأيتُ تيجانَ وعيِهم وعلمِهم وأدبِهم، وإذ كانوا ضباطًا كبارًا في زمنٍ مضى فلم يتخلوا عن حضورهم الثقافيِّ حتى اليوم؛ حفظهما الله.
فاتحة أخيرة
لم يتدخل الوالد -رحمه الله- في توجيهنا وإخوتي نحو تخصصٍ معينٍ، ولعلي من أقربِ أولاده إليه في الاهتمام الثقافي، وكان مقدَّرًا أنْ أواصل مسيرته في دراسة اللغة العربية، غير أني فارقتُها بعد المرحلة الثانوية، وتنوعتْ اختصاصاتُ أشقائي وشقيقاتي وأولادِنا إلا أن العسكريةَ لم تكنْ خيارًا انتهجناه، ولولا أن شقيقي (طارق) تخصص تقنيًا والتحق عمليًا بالقوات البرية لانتفى في منزلنا الكبير وجودُ بدلةٍ وأشرطةٍ ونجوم.
فصلٌ في الحكاية..
تبتدئ من لبنان، وتحديدًا من منطقة « المتن» في جبل لبنان، حين تجاورَ منتجعي الصيفيُّ -رد الله غربته- في مدينة» برمانا» مع منتجعٍ لطيف في بلدة «ضهر الصوان»، ولا خطأ في رسم (ضهر) بالضاد إذ تعني الكلمة أعلى الجبل، وورد شبيهًا لها وقريبًا منها في المكان: (ضهور الشّوَير)، كما يشتهر (ضهر البيدر) في منطقة « الشوف» عند الطريق المؤدية إلى سوريا.
اشتهرت (ضهر الصوان) بمنتجعها الطبي (مركز بحنِّس الطبيّ) ووردت الإشارةُ إليه في بعض السيرالذاتية كما في خواطر وذكريات الشيخ إبراهيم الحسون؛ فقد كان مقصدًا للمستشفِين من الأمراض الصدرية لارتفاع موقعه بحوالي ألف متر عن سطح البحر، ولنقاء هوائه، وقد أُدخل فيه أبو يوسف -رحمه الله- في الخمسينيات الميلادية، وكتب عنه محمد حسن بوكا في مذكراته عن «التاريخ السوري المعاصر» حين عُولج - خلال الأربعينيات الميلادية - من الكهف الرئوي وذات الجنب، وأعرفُ صديقًا ارتاده للإبلال من مرضٍ آخر.
امتلأت البلدةُ بمنازل السعوديين، وغلبَ على أكثرهم انحدارُهم من منطقة القصيم، حتى أسماها بعضُهم: ضهر القصمان بدلًا من الصوان، وخلال زياراتي السنوية تعرفتُ على أصدقاءَ أعزاءَ، معظمُهم في مقام أساتذة، وأكثرُهم عسكريون، وعرفتُ منهم على تفاوتٍ في مسافات القرب معالي الفريق أول صالح بن علي المحيّا، وكان يشغل وقتها منصب رئيس هيئة الأركان العامة، وتعجب اللبنانيون، ولم نتعجب، من قائد الجيش – كما يصفونه – جالسًا مع أصدقائه بمقهىً شعبي في شارع برمانا الرئيس، ورأينا الأمر معتادًا، وكنا نناديه بكنيته : أبو علي، وزارني في منزلي هناك، وربما تبادلنا قراءةَ بعضِ ما يصل إلينا – عبر الواتساب - من طُرفٍ وأخبارٍ وحكايات، وانتهت لقاءاتي به بعد عودتنا إلى الرياض، وأدعو الله له بالصحة والعافية.
لم يكن وحده؛ فقد عرفتُ العميد علي الغفيلي، وأذكر أنه كان يأتي إلى لبنان بسيارته؛ فينطلق من الرياض أو الرس قبيل الفجر ويصلُ بعد العشاء، وعرفتُ عن بُعد الفريق أول الدكتور علي بن محمد الخليفة، وأذكر أنه دعاني مع آخرين لتناول الغداء في مطعم «منير» الشهير الواقع في الحد الفاصل بين «بيت مري» و»برمَّانا»، غير أني اعتذرتُ لارتباطٍ مسبق، وكذا سمعتُ عن الفريق أول عبدالرحمن بن صالح البنيان الذي لم يتصادف وجودنا معًا في وقتٍ واحد؛ فقد ذاعت سيرتُه الطيبة، وممن جالستُهم اللواء منيع الخليفة «أبو هيثم»، ووجودُه في المكان حالةُ فرحٍ جميل؛ فهو خفيفُ الروح، حاضرُ البديهة، لطيفُ النُّكتة، وكان في الجوار ضباطٌ آخرون لم أسعد بحفظ أسمائهم.
في متن الحكاية
ارتبطتُ بجوارٍ وصداقةٍ في برمانا مع اللواء المهندس عبدالله بن عبدالكريم المرزوقي، وهو الأخُ الأكبر للصديق الدكتور حمد المرزوقي ( أبو نادر) الذي أعي منذ زمنٍ حضوره الثقافي المضيء من دون أن يكون هناك ارتباطٌ مباشر، وفي المصادفات مواعيدُ جميلة؛ فقد حان وقت صلاة مغرب أحد الأيام وأنا في «سوليدير بيروت» فذهبت إلى «جامع الأمير منصور عسَّاف» لأدائها، ووجدت «أبا نادر» في الصف الأول، وفي التقاء الغرباء قرب، ومن لحظتها ونحن متواصلان هاتفيًا وحضوريًا، وقد كتبتُ عنه في كتابي «إمضاء لذاكرة الوفاء»، -حفظه الله-، وتمنيتُ وأتمنى عودتَه إلى الساحة الثقافية ولو عبر لقاءاتٍ ومحاضراتٍ فلعله يُخرج مخبوءَه المعرفيَّ وتجربتَه الكتابيّة والإداريةَ والحياتيةَ فهي ملأى.
عرَّفني أبو نادر بأخيه اللواء عبدالله «أبي وليد» الذي شغل منصب» قائد سلاح الإشارة» في وزارة الدفاع، وسعدتُ حين تجاورنا في السكن «البرمَّاني» أعوامًا، وما نزال، وكنا نلتقي خلال فترة الصيف بصورة يومية، وبدأت سحائبُ صرامة العسكريين تتبدد، وأيقنتُ أنَّ ما يبدو في مظاهر بعضهم لا ينطبق على أكثرهم، واستعدتُ صورة الفريق عبدالرحمن بن عبدالله المرشد الذي أدركتُ تعاملَه اللطيف المرح مذ كنتُ صغيرًا لعلاقته بوالدي -رحمه الله-، وأذكر مهاتفته يومًا حين قال: إن لديه صورةً لي تجمعني بوالدي التقطها بعدسته، وإنه لن يسلمَها لي إلا إذا زرتُه في منزله، وفعلتُ، لا للصورة فقط بل لأقلِّ حقِّه عليّ، ومن يومها، وكان قائدًا للقوات البرية قبل تعيينه نائبًا لرئيس هيئة الأركان ثم تقاعده، ارتبطتُ بوشائج صداقة معه تتوجّت بصدور كتابه السيريّ : (نصفُ قرنٍ بين الجنود) حيث حظيتُ بثقته وثقة ناشره وراجعتُ مراحلَه الأخيرة، وكنتُ ممن حثُّوا أبا عبدالله على كتابته فسوَّف طويلًا حتى أصدره.
ويومًا رافقتُ الشاعر القدير «ابن العم عبدالعزيز العلي العمرو» إلى مجلس اللواء صالح بن عبدالمحسن القرزعي» قائد قوة عثمان بن عفان في درع وعاصفة الصحراء – وهو مجلس أسبوعي بعد صلاة عشاء كل يوم أحد- ولقيتُ منه احتفاءً كريمًا، وارتدتُ وأرتادُ مجلسه، وسعدتُ بصدور كتابه (وقفة عز) الذي روى فيه بعضًا من سيرته العامة، وركز على دوره في حرب تحرير الكويت، وكان قد عرض عليَّ مسَوّدة كتابه فشكرتُ ثقته وسعدتُ لسعادته، وأتمنى أن يحققَ ما أمله من توثيقه.
وممن تأخرت معرفتي بهم كثيرًا وطويلًا الفريق أول حمد بن محمد العوهلي رئيس الحرس الملكي سابقًا، وأجزم أنني السببُ في التأخير كعادتي في النأي عن ذوي الحضور الرسمي؛ فكيف بمن عمل مع خمسةٍ من ملوك المملكة طيلة واحدٍ وخمسين عامًا، وكنتُ أرى المهابة في إهابه، وحصلت لي فرصٌ للقائه وهو على رأس العمل في جلسات أصدقاء فلم أفعل، وربما صافحتُه مرةً أو مرتين في مناسبات عامة، وتجاورنا في سكنٍ لبناني بمنطقة «ضبيَّة» فلم نتقابل، غير أنني اكتشفتُ كم أضعتُ حين لم أحظَ بقربه إلا قبل عامٍ وأشهر لأستفيد وأستزيد من تواضعه ولطفه وجمال حديثه وموثوقية ذكرياته وألق ذاكرته واهتماماته الثقافية وعنايته بالشعر العاميِّ وبخاصةٍ شعرُ الرد، فوق كونه شاعرًا وإن بدا مُقلًا، وليته يتبعُ خطى من سبقه فيوثق سيرته المُلهِمة.
ومع هؤلاء الكبار الذين تقدموني قليلًا في العمر وندمتُ على ما فاتني من صحبتهم فلي صداقة وثيقة مع اثنين سبقتُهما عمرًا، وتقاعدا قريبًا، وهما اللواء سالم بن عبدالعزيز التركي حفيد الفريق مرزوق بن تركي الخليوي قائد الحرس الملكي الأسبق، والعميد عبدالعزيز بن سعد الصالح، واللافت أننا نشترك في دورية أسبوعية مذْ كانا بنجمةٍ واحدة وطيلة أعوامٍ طويلةٍ ما تزال مشرقةً بلقائنا الممتد في الرياض حيث سكنُنا، وفي «شقراء وضرما» حيث منتجعاهُما، معتزًا بهما وبأنهما من أنبل من عرفتُ خُلُقًا وطيبةً وكرمًا وتفانيًا في الخدمة والبذل.
خاتمة
لا يجيءُ المقالُ حصرًا بكلِّ من عرفتُ من العسكريين؛ فلي ابنُ خالي اللواء صالح بن عبدالعزيز الرُّعوجي وابنُه عبدالعزيز، ولي زملاءُ من أيام الصِّبا اتجهوا للعسكرية، مثلما مرَّ في حياتي العملية كثيرون، وبخاصةٍ حين انتقلتُ من عملي في معهد الإدارة إلى القطاع الأهلي، وقابلتُ منهم عديدين، وفيهم فضلاءُ متميزون غير أن لقاءاتِ العمل العابرةَ لا تتيحُ مزيدَ معرفةٍ، ويقتصر معظمُها على السلام والمجاملة ومناقشة ما جاؤوا من أجله، وهو ما لا يأذنُ باستفاضة حديث عن شخوصهم الكريمة.
الحياةُ تنوع، وخيرُ الناس مَن أحسن للناس وصدق مع رب الناس.