د.عبدالله بن موسى الطاير
لا أظن أن الأفارقة الذين يذهبون إلى الموت في البحر المتوسط فارين من الموت في بلدانهم كانوا يبحثون عن الديموقراطية، بدلاً من ذلك فإنهم يفرون من الجوع، والخوف على أمل النجاة من الموتين باللجوء إلى أوروبا من أجل لقمة العيش والنوم في أمان.
هناك قدر كاف من الشكل الديموقراطي، وغياب تام لممكنات الحياة من المأكل والمشرب، والدواء والأمن والاستقرار.
لم تطعمهم المظاهر الديموقراطية من جوع، ولم تؤمنهم من خوف، وإن كانت قد أغدقت على الفاعلين من السياسيين والأحزاب أموالاً ضخمة من الحكومات والمنظمات الغربية.
الوكالات الحكومية والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات متعددة الأطراف تقدم مليارات الدولارات لفرض الديموقراطية في إفريقيا.
تتصدر مشهد الداعمين المؤسسة الوطنية للديمقراطية الأمريكية (NED)، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، والمؤسسة الأوروبية للديمقراطية وحقوق الإنسان (EIDHR)، وغيرها من الأجهزة الحكومية وشبه الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني في الدول الغربية التي تتنافس وتتكامل في تقدم المساعدات المالية، والفنية، وبناء القدرات، والبحث والتحليل وتمارس الضغط من أجل الإصلاحات الديمقراطية وحقوق الإنسان في القارة السمراء.
لا أدري كيف يوفقون بين الخوف والجوع وغياب الأمل وبين المثابرة على توطين الممارسة الديموقراطية القادمة من رحم الأمن والاستقرار والعلم، والصناعة والثراء والرفاهية.
وإذ ارتبط مصطلح «الديمقراطية» على نطاق واسع بالفلسفة السياسية الغربية - يشمل ذلك الاقتراع العام، وفصل السلطات، والحكم التمثيلي- فإن أبناء المستعمرات الإفريقية الذين أرسلهم الاستعمار للتعلم في أوروبا الاستعمارية قد خلبت الديموقراطية ألبابهم، فاستخدموا المؤسسات الغربية للضغط على دولها للجلاء عن إفريقيا، وترك المجال للنخب المعجبة بالديمقراطية من أبناء تلك القارة ليقدموها لبلادهم لضمان تحقيق هدفين هما الولاء السياسي والتبعية الاقتصادية.
ولذلك فليس مستغرباً القول إن الخطوات الأولية نحو التحول الديمقراطي في إفريقيا قادها نخبة من الأفارقة الذين تلقوا تعليمهم في المؤسسات الغربية ومنهم كوامي نكروما في غانا، وجومو كينياتا في كينيا، وجوليوس نيريري في تنزانيا، وكان لهم دور فاعل في التأسيس الأولي للمؤسسات الديمقراطية في بلدانهم.
أصبحت غانا (المعروفة آنذاك باسم ساحل الذهب) علامة فارقة في الديمقراطية الإفريقية، حيث حصلت بقيادة كوامي نكروما على استقلالها عن الحكم البريطاني في عام 1957، لتصبح أول مستعمرة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تفعل ذلك.
اعتمدت نظام الحكم البرلماني في البداية، لكنها تحولت فيما بعد إلى النظام الرئاسي.
وعلى الرغم من أن حكم نكروما اتخذ في نهاية المطاف اتجاهات استبدادية، إلا أن قيادته شكلت سابقة للدول الإفريقية الأخرى.
وحذت بلدان أخرى حذو غانا بدرجات متفاوتة من النجاح في إرساء الحكم الديمقراطي من أمثال بوتسوانا منذ استقلالها في عام 1966م، وبينما مست الديموقراطية دولا أخرى، لأنها قد ترنحت بين الانقلابات العسكرية، والحكم الاستبدادي، والصراعات الأهلية.
الدراسات والتحليلات الغربية تشخص التحديات التي تواجه الديمقراطية في إفريقيا بأنها تتراوح بين تزوير الانتخابات والفساد والتوتر العرقي وعدم كفاية التعليم السياسي، لكنها لا تتطرق مطلقاً لتردي الأحوال المعيشية للسكان وغياب الأمن، وافتقار تلك الدول للبنى التحتية الرئيسة للديموقراطية.
إذا كانت التجارب الديموقراطية في بدياتها قد جاءت على أيدي أبناء القارة الذين درسوا في الغرب، فإن تلك الفترة لم تكن لتسمح لهم بالانفتاح على تجارب حكم أخرى ناجحة في تأمين حياة كريمة لمواطنيها، فلم يكن ينافس الغرب سوى الاتحاد السوفيتي المتهالك والذي يترنح تحت وقع لكمات المعسكر الرأسمالي في حلبة الحرب الباردة.
اليوم يستطيع أبناء القارة أن يشاهدوا تجارب لا تجعل الوسيلة المتمثلة في الديموقراطية بأدواتها هي غاية الحكم بدلاً عن الحكم الرشيد، كما تفعل المؤسسات الغربية في فرضها الديموقراطية في إفريقيا، وإنما تتعرض لتجربة أخرى تهتم للأمن والاستقرار والحياة الكريمة للمواطن، ونجحت في مساعيها، ومن تلك التجارب الصين وروسيا فضلاً عن تجربة دول الخليج التي أصبحت بحق نموذجاً للحكم الرشيد.
لا ريب أن كثيراً من دول إفريقيا تبحث عن أنظمة حكم توفر لها حياة كريمة، وليس عن قادة منتخبين لا تستطيع مؤسسات الدولة حمايتهم من انقلاب حارس شخصي أو ضابط في المؤسسة العسكرية.
الإرث الاستعماري الأوروبي بقي بكل أسف بوجهه البشع حاضراً في المعاناة اليومية للأفارقة، ويتوقع الناس أنه سبب من أسباب الفساد وغياب التنمية وأنه المنتج الرئيس لأفلام الإلهاء الديمقراطية، ويتصرف من برجه الاستعماري العنصري الأبيض، ولذلك تنامى بين الأفارقة الترحيب بمن يزاحم القارة العجوز في إفريقيا، سواء أكان روسيا أو الصين.
اللافت أن هناك ترحيباً بالأمريكيين أيضاً على اعتبار أنها لم تكن يوماً مُستعمِرة، وإنما تشترك معهم في أنها خبرت ذل الاستعمار.
أعتقد أن إفريقيا تمر بمخاض صعب وردة مبررة عن الديموقراطية، وقد لا تكون تلك الترتيبات إستراتيجية، ولكنها على الأقل لاستعادة الأمن وتأمين لقمة العيش، ثم بعد ذلك تفكر في أسلوب الحكم المناسب.