في العقد الثالث من القرن العشرين، وُلِدَ الأستاذ منصور بن محمد الصالح الخريجي، نشأ وأمضى صباه في بلدة القريتين الواقعة على أطراف بادية الشام ما بين دمشق وتدمر، هو ابن لأب من العقيلات ممن تركوا بلدة الرس القصيمية إلى هناك طلبًا للرزق، في رحلة حياة مترابطة، تتصاعد فيها المواقف الدرامية وصعوبات الواقع والجد والصبر والاجتهاد، انتهى به المطاف كمترجم للملك فيصل (رحمه الله) ونائبًا لرئيس المراسم في عهده.
في هذا اللقاء الذي أجراه الإعلامي محمد رضا نصرالله معه ضمن برنامجه (هذا هو)، يكشف الخريجي عن رحلة العقيلات المضنية وصولًا إلى الرحلات الملكية التي سافر فيها جنبًا إلى جنب مع الملك فيصل، ويسرد مزيدًا من التفاصيل الدقيقة لمسيرة امتدت قرابة نصف قرن، الأسطر التالية تحمل حديثًا ماتعًا لرجل من رجالات الدولة السعودية العصاميين ممن عاصروا 4 ملوك، وكانوا شهودًا على عصر كامل من التحولات والأحداث المهمة.
تجربة العقيلات
* عرفت الجزيرة العربية طردًا لسكانها قبل تطورها الحديث، فعلى امتداد أجزاء واسعة من الخريطة العالمية تواجد أبناؤها، واستمر هذا الوجود حتى ما قبل عقود، حيث كان الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية يستدعي أبناءها للخروج إلى آفاق الدنيا، وقد اصطلح على من خرجوا إلى هناك من النجديين بمصطلح «العقيلات»، معنا اليوم واحدٌ من هؤلاء، ممن ذهبوا إلى خارج الجزيرة العربية، هنالك عانوا وتعلموا، سعدوا ويأسوا، ولكن الحنين الجارف إلى الجزيرة وإلى نجد، كما هو الحال في أدبياتنا الشعرية القديمة، جعل ضيفنا وهو الأستاذ منصور محمد الخريجي أن يعود مع عائلته عبر معاناة إنسانية مريرة، فأهلًا وسهلًا به أولًا.
** وبعد ذلك نريد أن نستجلي معك تجربة العقيلات، أنت واحدٌ من هؤلاء، حيث ذهب والدك، محمد الصالح الخريجي، من بلدته في الرس بالقصيم، إلى حيث ذهب يتاجر في الإبل، في تلك المنطقة الشامية التي كانت مسرحًا لتجارة الإبل، نريد هنا أن توضح لنا هذه الصورة، مع حالة المعاناة التي عاشها أبوك وأسرتك قبل العودة إلى المملكة؟
- في الحقيقة، قبل أن نبدأ التسجيل، سألني الأخ محمد عن معنى العقيلات، وأنا لا أدّعي أني اعرف كيف جاءت الكلمة، ولكن هناك كتاب كُتِبَ عن العقيلات، ويُقال إن التسمية جاءت ربما من قبيلة بني عقيل، أو لعل هناك سبب آخر للتسمية، ولكن الملاحظ أن العقيلات كانوا دائما يأتون على الإبل، وإذا وقفوا في مكانٍ ما فإنهم كانوا يعقلونها، فربما من هنا جاءت التسمية، لكن بشكل عام لا أعرف إن كان أحد من الدارسين قد توصل إلى تفسير دقيق للكلمة وأصلها، وبأي حال فقد أُطلقت هذه التسمية على كل من ذهب إلى الشام؛ الأردن وسوريا وفلسطين، وكان والدي (رحمه الله) واحدًا منهم، وكان معظمهم على معرفة بالوالد، أذكر ممن كانوا على صلة قريبة جدا به؛ المرحوم عبدالله بن نشاط العتيبي، وهو والد الأخ محمد العتيبي، وهو بالمناسبة ابن خالتي، وسأروي لاحقًا كيف صرنا أقرباء، وهناك أيضا ناصر العساف (رحمه الله)، وكانوا بالمناسبة غالبًا ما ينخرطون بالجندية.
طبعا هم كانوا فقراء، ولذلك تركوا نجد، التي كان يُقال عنها في الماضي أنها تنتج رجالًا، لكنها بخيلة بإنتاج ما يقوّم حياة الرجال، وذلك بسبب شُحّ الطبيعة فيها، لذا نجد أن بعضهم ذهب إلى الهند وبعضهم ذهب إلى العراق أو الشام، ومن شدة فقر الوالد ومن كانوا معه فكروا أن يذهبوا من الرس إلى الشام سيرًا على الأقدام، أصل عائلة الخريجي من عنيزة، ولكن جدي رحل إلى الرس وهناك استقر، لكن لحسن حظه أن واحدًا من أصدقائه عرف أنه مهاجر، فعرض عليه أن يُدّيّنه عددًا من الجنيهات الذهبية، وتلك الجنيهات هي التي تجهز بها للهجرة إلى هناك، وأذكر أنه منذ عهدِ ليس ببعيد، بعدما تخرجت من الدراسة واشتغلت بالديوان، جاءني هذا الشخص (رحمه الله) وأخبرني أنه ظل ساكتًا عن هذا الدين طيلة فترة عدم مقدرتي أنا وإخوتي عن رد هذا الدين، ولكن لما عرف بمقدرتي على رده، فجاء وطلبه مني، فدفعته له، واسترحنا جميعا.
العقيلات والجندية
** أشرت إلى أن عددًا من هؤلاء المصطلح عليهم بالعقيلات، أنهم كانوا ينضوون تحت سلك الجندية، المعروف بأن والدكم ووالد كل من ذهب على تلك الأماكن في بلاد الشام، كان ذلك قبل نشوء الدولة الحديثة، سواء كان ذلك في المملكة العربية السعودية، أو حتى في تلك الدول، حيث كان الاستعمار جاثمًا بصدره في سوريا ولبنان وفلسطين، إذن الجندية هنا انتماءً إلى ماذا؟
- كان معظمهم - إن لم يكن جميعهم - ينتسبون إلى فرق الهجانة، وهذه الفرق كان عملها مقتصرا على تثبيت الأمن والتجوال في المناطق البدوية في بادية الشام لحفظ الأمن بين القبائل البدوية، وعلى الرغم من أن رؤسائهم كانوا من الفرنسيين، إلا أن مشكلات القبائل كانت تعتبر كأنها شيئًا داخليًا، فكان يتم تعيين أناس من السوريين ومن المهاجرين من نجد العربية، فكان عملهم هو حفظ الأمن بين القبائل في البادية، فظلوا على إبلهم ورحالهم يتنقلون في البادية السورية.
العودة إلى المملكة
** لو عدنا إلى المملكة العربية السعودية، حينما علم أهلكم في المدينة المنورة بأنكم تعيشون في ضنك وفقر شديد، حدثنا عن تجربة العودة إلى المملكة؟
- بدأت تجربة العودة بعدما استقر الأمن في بلادنا، وذلك بعد أن استقر الأمر للملك عبدالعزيز (رحمه الله) وأصبحت بلادنا جذبًا من جديد للحجاج بعد أن كانت في العصور السابقة طرق الحجيج خطرة وغير مأمونة، فعندما انفتحت البلاد وأصبحت تستقبل الحجاج، حج أحد الأشخاص من القريتين، وكان صديقًا للوالد، فأتى إلى المدينة المنورة واتصل بآل الخريجي، وكان هناك الشيخ عبدالعزيز الخريجي، عميد العائلة، والشيخ محمد الخريجي (رحمه الله)، وأيضا عمي عبدالرحمن صالح الخريجي، وبدأت من هنا الاتصالات ولم يعد هذا الرجل إلى القريتين إلا وكان معه مبلغًا من المال لنا، وأنا لا أزال أذكر حتى الآن فرحة والدتي عندما أتى هذا المبلغ الذي لا أتذكر قيمته، ولكنه فإنه كان أشبه بالهبة التي نزلت من السماء، والدتي لم تنم في تلك الليلة من شدة فرحتها.
طريق العودة
* يصف الرحالة الغربيون سلوك الطرق الصحراوية في الجزيرة العربية بالهول والرعب، خاصةً وقتما كان نظام القوة هو الشائع، قبل الاستقرار السياسي الذي حدث بعد قيام الدولة السعودية الثالثة، نريد هنا حديثًا عن هذا الموضوع، مشوبًا بتجربة خاصة أو ذاتية خاضها الأستاذ منصور الخريجي، وهو يعود من القريتين إلى بلده، المملكة العربية السعودية.
- عندما عدت مع العائلة من سوريا إلى المدينة المنورة، كان عمري لا يزيد عن 12 أو 13 سنة، كنت قد حصلت على الشهادة الابتدائية، كانت سعادتي بالعودة بالغة، لأننا كنا سنعود مسافرين بالسيارة، حيث كانت السيارات في تلك الفترة شيئًا نادرًا، لدرجة أننا عندما كنا في القريتين عندما نسمع صوت سيارة، فكنا كأولاد نخرج من بيوتنا ونركض وراءها ونحاول التعلق بها، فالعودة أطلعتني على حقيقة لم أكن أدركها، حيث سافرنا من القريتين إلى دمشق، ثم إلى الجوف ثم سكاكا، ثم دخلنا إلى النفود، كان كل شيء على ما يرام، ثم فجأة عطب شيء بالسيارة، أذكر أن السائق قال إن لديه قطع غيار لكل شيء في السيارة، إلا هذه القطعة التي انكسرت، ساد الهرج والمرج والخوف، وأنا في تلك اللحظة لم أكن أستوعب كيفية وجود هذا العدد الكبير من الناس الذين كانوا بالسيارة، كانت عائلتنا حوالي 6 أفراد، وكانت هناك عائلاتان غيرنا، وهناك أيضا رجال بمفردهم.
أراد الله أن يكون من بين المسافرين من يعرف الطريق، بالرغم من وجودنا في تلك البحار من الرمال التي لا يوجد لها نهاية، وكانت التجربة المريرة هي في القرار الذي اتخِذ لإكمال الطريق سيرًا على الأقدام، ولكن نقول الحمدلله إنه لم يكن هناك خطر كما كان في السابق، كأن يأتي قطّاع طريق أو غيرهم ويسطون علينا، لكن الخوف كان من أن نتوه في هذه الصحراء وألا نصل أبدًا إلى وجهتنا.
مجتمع المدينة المنورة
** كيف وجدتم المجتمع في المدينة المنورة، وأنتم آتون من مجتمع القريتين، وهو مجتمع فلاحي متضامن ومتآلف، بينما المدينة كانت بشكل أو بآخر تنطوي على تركيبة اجتماعية متعددة الأعراق والثقافات والأجناس؟
- كان الوضع قطعًا يختلف، في المناطق الريفية كان هناك انفتاح من الناس على بعضهم البعض، لا يوجد مثلًا في المناطق الريفية مواعيد بين الناس، فإذا رغبت في زيارة أي شخص في أي وقت جاء على بالي، فإنني أذهب مباشرة دون اتصال مسبق، فبدأنا نتعلم أن لكل شيء مواعيد، إذا أردت أن تزور شخصًا أو تراه فلا بد من أخذ موعد مسبق معه، مثلًا في مجتمع القريتين كانت الفلاحات لا يغطين وجوههن، هذا غير موجود في مجتمع المدينة، فجميع النساء يغطين وجوههن.
** وكيف كان هذا المجتمع على الصعيد الثقافي؟، خصوصًا فيما يتعلق بحلقات الدروس الموجودة في الحرم المدني، لقد كان هنالك تيارات ثقافية متباينة، وأعراق آتية من كل مكان من العالم الإسلامي، فهل تلمست هذه الطوابع الثقافية الجديدة على وعيك؟
- بالتأكيد، لأنني - كما قلت - كانت تنقصني الثقافة الدينية، وقد ركزت عليها وبدأت أدرس وأركز بدافع نفسي على تعلم كتب الفقه والأحاديث وغيرها، إلى أن جاء أستاذ مصري لا أتذكر اسمه الآن، وقال لعمي بأنني نابغة في العلوم الدينية، ولا يجب أن تفوت الفرصة عليّ، ويجب أن يتم إلحاقي بالأزهر الشريف.
في القاهرة
** ولكن الملاحظ بأنك بعد استكمالك للدراسة المتوسطة والثانوية، التحقت بمدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، وتذهب على القاهرة لتتخصص في دراسة اللغة الإنجليزية.
- كان معظم أساتذتنا من المصريين، حفزونا على أن نذهب إلى القاهرة، ومن الطبيعي كانت الدولة الرشيدة لدينا ترسلنا إلى القاهرة للابتعاث واستكمال الدراسة، أنا عشت في العصر الذهبي للطلبة السعوديين في القاهرة، كان ذلك في الخمسينات، أنا ذهبت إلى القاهرة في 1954م وعدت منها في 1958م.
** ماذا أخذت من القاهرة؟، وماذا أخذت منك؟
- من البديهي أن القاهرة أعطتني شهادة جامعية، فأنا ذهبت إليها للدراسة الجامعية، ووجدت فيها بلدًا حديثًا وجميلًا، وشوارعها كانت مختلفة تماما عن شوارع المدينة المنورة، التي كانت لا تزال ترابية وغير مضاءة بالكهرباء، مثلما كان الحال في القاهرة.
مترجم الملك فيصل
** حدثنا عن الملك فيصل (رحمه الله)، حيث ذهبت من الجامعة لتتولى الترجمة لهذا الملك الكبير.
- بدايةً أود أن أشير إلى أنني لم أحصل على الدكتوراه، إذ حدثت ظروف معينة بعدما درست كل المتطلبات اللازمة للبدء في الدكتوراه في أمريكا، لديهم نظام يسمى الـ «Course Work» وهذا يأخذ حوالي 3 أو 4 سنوات، وهذا اجتزته بالتقديرات المطلوبة، ثم بعد ذلك عليك اجتياز امتحان نهائي حول ما درسته طيلة الـ 4 سنوات، كانت غلطتي أنني لم أحصل على إجازة واحدة طوال هذه السنوات، لا صيفًا ولا شتاءً، وبعدما وصلت إلى تلك النهاية وصلت إلى الامتحان الذي كان يُجرى على مدار يومين، وكنت في كل ليلة آخذ 7 أو 8 حبات منوّمة كي أستطيع أن أنام في الليل، وكانت هذه غلطة مميتة ونتائجها سيئة، والحمدلله أنني لم أمت بسبب ذلك.
فعدت على أي حال، ومكثت فترة في الجامعة ووجدت أنه لكي يكون لك اعتبارك الكامل، يجب أن تكون ممن يحملون الدكتوراه، حتى ولو أقسمت لمن يريد القسم أنك درست كل ما تتطلبه الدكتوراه، فقررت أن أعود لإكمال الدكتوراه، ولكن في تلك الأثناء مرض عبدالعزيز الماجد، وكان هو مترجم الملك فيصل (رحمهما الله)، فبدأوا يبحثون عن بديل من بين عدة أشخاص، إلا أن معظم من اختبروهم لم يحظوا بالقبول، سُئِلَ وزير المعارف آنذاك، الشيخ حسن عبدالله الشيخ (رحمه الله)، عن شخص مناسب، فسأل الجامعة ودّلوه عليّ، فحضّرت نفسي جيدًا وذهبت، وكان هناك أحد السفراء يقدّم أوراق اعتماده في ذلك الوقت، والملك فيصل (رحمه الله) لم يكن يعدّ ما يقوله أو يقرأ من ورقة، سواء خلال أحاديثه أو خطاباته، فأتى السفير لمقابلة الملك، وكان هناك مجموعة من الأشخاص الحاضرين، وكلهم شجعوني في الحقيقة، أذكر منهم السيد عمر السقاف (رحمه الله)، الذي كان وزيرًا للدولة في ذلك الوقت وكان من ضمن عمله أن يكون حاضرًا، وكذلك كان هناك الدكتور رشاد فرعون، والشيخ محمد النويصر.
دخلنا على الملك، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها ملكًا، كنت دائما أرى صور الملوك فقط، الغريب أنني لم أكن مرتبكًا، كنت أركز بصورة غير معهودة في بداية عملي بالترجمة، لدرجة أنني كنت أشبه ما يكون بالمسجل.
** كيف رأيت شخصية الملك فيصل يرحمه الله؟
- الانبهار من شخصية الملك فيصل في الأصل كان موجودًا، فهذا الرجل (رحمه الله) رأيته في مواقع عديدة، لأكثر من مرة، وكان الزائر الأجنبي يرتجف من هيبة الملك، وكان حول الملك فيصل أيضا رجال عظام، وكنا نرى أحيانا بعض السفراء أمام الملك يرتجفون لدرجة أن الورقة لا تثبت في يدهم، فكنا ننظر ونبتسم.
أذكر في إحدى المرات، كان هناك زائر أجنبي قادم لزيارة الملك، وأعطيناه فنجان شاي، وأمام الملك بدأت يد الضيف ترتجف لدرجة أنني أسرعت وأخذت فنجان الشاي، بعد أن سقط جزءًا منه على بزته، أنا كتبت بعضًا من هذه المواقف عن الملك فيصل (رحمه الله) في كتابي.
مواقف مع الملك فيصل
** ما هو أبرز موقف يتذكره الأستاذ منصور الخريجي، نائب رئيس المراسم الملكية في المملكة العربية السعودية؟
- كان لدى الملك فيصل اجتماع مع مساعد وزير الخارجية الأمريكية جوزيف سيسكو وكبار موظفي الخارجية الأمريكية، في الرياض، وطبعًا لا داعي لتكرار الحديث عن هيبة الملك فيصل وكيف يجلس وكيف كان يتحدث وغيرها من الأمور التي تدلل على عظمة هيبته، وكنت أنا أتولى الترجمة، فقال سيسكو شيئًا أنا رأيته مضحكًا، فانفجرت أنا وحدي بالضحك، ولم ينبس أحدًا ولو بابتسامة واحدة حتى.
** ألم يؤاخذك الملك فيصل على هذا؟
- الملك فيصل لا يؤاخذ أحدًا، ولا تخرج مؤاخذته عن نظرة، ولا أعتقد أنه نظر إليّ في ذلك اليوم، على العكس فإن الملك فيصل كان يعطف عليّ بشكل غير معقول.
** لماذا؟
- لأنني كنت أترجم له، وربما كان يقّدر المجهود الذي أقوم به، فمثلًا في رحلته إلى أوغندا، التقى الملك بـ»عيدي أمين»، وهناك وقف عيدي أمين يتكلم لمدة 10 دقائق أو ربع ساعة تقريبًا، وكنت أقف أنا بجواره كي أترجم، لدرجة أن الملك فيصل نفسه طلب مني أن أطلب منه أن يتوقف كي أستطيع أن أترجم ما قاله، وكان الملك يسألني باستمرار متى أريده أن يتوقف عن الحديث، خاصةً إذا كان الموضوع معقد أو ثقيل في ترجمته.
وأنا أقول الآن إنه كان يعرف اللغة الإنجليزية بما يكفي على الأقل أن يعرف الكلمة إن لم تكن صحيحة، وهذه كانت طريقة الملك فيصل، فمثلًا في إحدى المرات كنت أترجم عنه، فقال جملة، فرددها 3 مرات، وفي كل مرة يعيد هو نفس الجملة، وأعيد أنا ترجمتها، إلى أن وقعت ـ بعد أن أراد الله تعالى ذلك ـ على الكلمة التي يريدها الملك بالإنجليزية، فقال لي: نعم، هذه هي الكلمة التي أريدها.
** هل كان يتحدث مع بعض ضيوفه باللغة الإنجليزية؟
- كنا في زيارة لإحدى الدول، للأسف لا أتذكرها الآن، فتركت الملك لفترة، وعندما رجعت وجدت أن الملك يقف مع أحد المسؤولين باللغة الإنجليزية، أعتقد أن الملك فيصل يفهم اللغة الإنجليزية أكثر مما يتكلمها، هذا اعتقادي.
** حدثنا عن أطرف موقف حدث في زيارات الملك فيصل إلى هذه الدول العربية والإسلامية والإفريقية.
- هناك موقف حصل وكتبته في كتابي، حيث كنا في زيارة إلى أوغندا، ووصلنا إلى هناك بعد فترة طيران طويلة ومتعبة، وعيدي أمين كان يحب أن يُرِي الملك فيصل كل شيء، ووقف مرارًا بالسيارة طوال الطريق لتحية الناس المرحبين بالملك فيصل، وبدلًا من أن نذهب بعد كل ذلك إلى دار ضيافة للراحة، ذهبنا إلى زيارة نادي للسيدات المسلمات، وطبعا لا بد من تواجدي بجوار الملك فيصل للترجمة، قوبلنا في الحقيقة بشيء غير متوقع ان نجده في نادي للسيدات المسلمات، طبول ودفوف ورقص وغناء لتحية الملك، كان هذا موقفًا غريبًا جدا، أنا كنت على وشك أن انفجر من الضحك، أما الملك فلم يبتسم حتى.
** ماذا كان يأكل الملك فيصل؟
- كان يأكل من الطعام الذي يُوضع على المائدة، لم يكن له طعامًا معينًا يطلبه.
** ولكن كارتر في مذكراته قال بأن الملك فيصل كان يتبع نظامًا غذائيًا معينًا، فلم يكن يأكل اللحم بسبب استئصال إحدى كليتيه، عندما كان يخلط البازلاء وبعض البقوليات بالأرز.
- أستطيع أن أقول إنني رأيت الملك فيصل يأكل اللحوم، فأنا كنت أجلس بالقرب منه في معظم الزيارات، وعندما يتحدث شخص رأى فيها الملك فيصل يأكل لمرة واحدة، فيبدو لي أن كلامي أنا سيكون أكثر دقة منه، وأود أن أشير إلى أن الملك فيصل كان يتميز بنبل المظهر، وعندما كان يجلس إلى الطعام سواء هنا في جدة أو في الرياض، كنا أحيانا نحن الموظفين نجلس معه حول المائدة لتناول الطعام، فكان يروي لنا بعض القصص التي تجعلنا ننفجر من الضحك.
** من آخر الزعماء الذين قابلهم الملك فيصل؟، هل هو ياسر عرفات؟
- أظن أنه ياسر عرفات، أنا لا تزال لدي الجريدة التي صدرت في صباح اليوم الذي قُتِلَ فيه، وكانت هناك زيارة مرتبة للرئيس الجزائري ولكن تم إلغاؤها لاحقًا.
قضية القدس
** ماذا كانت تشكل قضية القدس في محادثات الملك فيصل مع الزعماء العرب والإسلاميين والعالميين؟
- قضية القدس كانت هي البؤرة الأساسية في سياسة الملك فيصل العربية والإسلامية والعالمية، لم يحصل أن قابل أحدًا من رؤساء ومسؤولي العالم ـ وهو زار أغلب بلدان العالم ـ دون أن يتكلم بحماس وألم عن القدس، وكان دائما يدعو الله تعالى ألا يموت قبل أن يصلى في القدس، فالقدس كانت عنده شيئًا مقدسًا.
حرب أكتوبر
** عُرِفَ الملك فيصل بموقفه الحاسم إبان حرب أكتوبر، حيث قاد الحرب الاقتصادية بإيقاف التصدير النفطي إلى الغرب والولايات المتحدة الامريكية، فهل عاصرت تلك الأجواء؟
- طبعا، وسأتكلم عما أعرفه، فخلال حرب 1973م كنت أنا مترجم الملك فيصل، وعندما لا يكون هناك شخص يتكلم بالإنجليزية، لا أكون حاضرًا، ولكن أعرف أن الملك فيصل كان من أوائل من عرفوا بتوقيت الحرب، وكما تذكر فقد زاره الرئيس أنور السادات، وأكد له على الموعد، وكان آخر صورة بينهما وهو يودعه، ويرفع يده بالدعاء لله تعالى بأن ينصره، وطبعا اتخذ الملك فيصل قراره التاريخي هذا الذي كان له الأثر الرئيس في الحرب.
** ما هي انعكاسات هذا الموقف في محادثات الملك فيصل مع وزير الخارجية الأمريكي وقتذاك، هنري كيسنغر؟
- لم أترجم أنا لـ»كيسنغر» عندما أتى، فهو كان يأتي ومعه عيسى خليل الصباغ، فكان هو الذي يترجم، وبالتالي لا أستطيع أن أجيب على هذا السؤال.
أيام مع الملك
** من كان أقرب الزعماء العرب إلى نفسية الملك فيصل؟
- هذا سؤال صعب الإجابة عليه، لأن الملك فيصل طوال حياته كان يحتفظ بمشاعره لنفسه، ولا يبوح بها لأحد، ولذلك فمن أصعب الأمور علينا نحن العاملين من حوله أن نعرف ذلك، لأنه كان لا يتكلم عن مشاعره.
** من كان أقرب العاملين إليه؟
- أخمّن ـ وهذه مجرد تخمين وقد أكون مخطئًا ـ إنه الشيخ سعد العبّاد (رحمه الله)، لأنه عاش معه فترة طويلة.