أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
أشرنا في المقال السابق إلى أنَّها تَظهر جَماليَّات الرَّجُل الجاهليِّ- بهيئته من: البياض، والشباب، وبخُلقه من: الفروسيَّة، والكفاح، والقناعة، والأُبوَّة، والتَّبَعُّل، إلى غير ذلك من مقاييسه الجَماليَّة عند العَرَب- في صورة (الثور الوحشي)، ممَّا يؤكِّد إيغال تلك الصُّورة في رمزيَّتها إليه في الشِّعر الجاهلي، كما تجلَّت في نماذجنا المدروسة.
وداخل إطار الرمزيَّة في (الثور الوحشي) للرجل الجاهلي- وما تحرِّكه هذه الرمزيَّة من جَماليَّات، متَّصلةٍ بجَماليَّات المرموز إليه/ الرَّجُل- تبدو صورتان: صورةٌ تُمثِّل الشاعر، أو قل: تُمثِّل نموذج الرُّجولة عنده، ضِمن سياجٍ من القِيَم الخيريَّة، وصورةٌ أخرى تمثِّل العَدُوَّ، بمقاييسه وصفاته المعهودة في الشِّعر الجاهلي، التي لا ينتقص منها الشاعر شيئًا، إنْ لم يمنحها من مزيد الوصف ما يُعرِب به عن جدارة العَدُوِّ بالمُواجهة، وجدارته هو بقهره. وهي الصُّورة التي يعبِّر بها الشاعر عمَّن حالَ بينه وبين محبوبته، إذ يقول، مثلًا، في ذِكر رحيل صاحبته، واختفاء رَكبها خلف مجال الإبصار:
أَتَى دُونَها ذَبُّ الرِّيادِ كأنَّهُ
فَتًى فارسيٌّ في سَراويلَ رامِحُ(1)
وبهذا يتحكَّم المرموز إليه في جَماليَّات الرمز، فيرسم له لوحة، قد يكون رآها، تمثِّل: فتًى فارسيًّا في سراويل رامحًا؛ لا على إرادة تشبيه هيئة (الثور الوحشي) بهيئة هذا المحارب أصلًا، بل لأنَّه كذلك يتخيَّل عَدُوَّه الذي حالَ من دون حبيبته: يُشْبِه تلك الصُّورة التي رآها، بفُتوَّة الفتى المرسوم فيها، وبِزَّته الحربيَّة، ورُمحه، وتحفُّزه للقتال، ملقيًا ذلك كلَّه على رمزه عنده: الثور الوحشي.
وفي صورة قصصيَّة مطوَّلة يقول (الأعشى)(2):
كـأَنـِّي ورَحْلـي والفِـتانَ ونُمْـرُقـي
على ظَهْـرِ طـاوٍ أَسْفَـعِ الخَـدِّ أَخْـثَـما
علـيـهِ دَيــابُـوذٌ تَـسَـرْبَـلَ تَحْــتَــهُ
أَرَنْـدَجَ إِسْـكافٍ يُخـالِـطُ عِـظْـلِـما
فـبـاتَ عَـذُوبًـا للسَّـمـاءِ كـأنـَّـما
يُـوائـمُ رَهْـطًـا لِـلْـعَـزُوبَــةِ صُــيَّـما
يَـلُـوذُ إلى أَرْطَــاةِ حِـقْـفٍ تَـلُـفُّــهُ
خَـريـقُ شَـمالٍ تَـتْـرُكُ الوَجْهَ أَقْـتَـما
مُـكِـبًّا على رَوْقَـيْـهِ يَحْـفِـرُ عِـرْقَـهـا
عـلى ظَـهْـرِ عُـريانِ الطَّريقـةِ أَهْـيَـما
فـلَـمَّا أَضـاءَ الصُّـبْـحُ قـامَ مُـبـادِرًا
وحـانَ انْطِلاقُ الشَّـاةِ مِنْ حيثُ خَيَّما
فـصَبَّـحَـهُ عـنـدَ الشُّـرُوقِ غُـدَيَّــةً
كِـلابُ الفَتَى البَكريِّ عَوفِ بنِ أَرْقَما
فأَطْـلَـقَ عن مَجْـنُـوبـِهـا فـاتَّـبَعْـنَـهُ
كـما هَيـَّـجَ السَّامِي المُعسِّـلُ خَشْرَما
لَـدُنْ غُـدْوَةً حتى أَتـَى اللَّيلُ دونَـهُ
وجَـشَّمَ صَـبْـرًا رَوْقَــهُ فَـتَجَـشَّما
وأَنْحَـى على شُـؤْمَـي يَدَيـهِ فذادَهـا
بِـأَظْـمَـأَ مِنْ فَـرْعِ الذُّؤابَـةِ أَسْحَـما
وأَنْحَـى لهـا إِذْ هَـزَّ في الصَّدْرِ رَوْقَـهُ
كما شَـكَّ ذُو العُـوْدِ الجَرادَ المُـخَـزَّما
فَشَـكَّ لها صَفْحـاتِهـا صَـدْرُ رَوْقِـهِ
كما شَكَّ ذُو العُـوْدِ الجَـرادَ المُـنَظَّما(3)
وأَدْبَـرَ كالشِّعْـرَى وُضُوحًـا ونُقْـبَـةً
يُـواعِـنُ مِنْ حَـرِّ الصَّريمَـةِ مُـعْظَما
فـذلك بَعْدَ الجَهْـدِ شَبَّـهْـتُ نـاقَـتي
إذا الشَّـاةُ يَـومًا في الكِـناسِ تَـجَرْثَـما
تَــؤُمُّ إِيـاســًـا إِنَّ رَبِّــي أَبـَـى لَـهُ
يَـدَ الدَّهْـرِ إلَّا عِــزَّةً وتَـكَــرُّمـا
فها هو ذا (الثور الوحشي) بصورته النمطيَّة، التي تقدَّمت ملامح منها.ومثلما رأينا الشاعر، في صورة سابقة، فإنه يحرص على تناسق الألوان في صورة الثور، فهو أسفع الخدِّ، أبيض الظهر، أسود القوائم، كأنَّ عليه (دَيابُوذ)، وهو نوع من الثياب، تحته (أَرَنْدَج)، وهو جِلْد أَسْود، يخالط (عِظْلِما)، وهو صِبغ أخضر يميل إلى سواد. وفي توازي هذين اللونَين (الأبيض والأسود) مغزًى رمزيٌّ، كما سبق القول، تكمِّله هذه الصورة الدراميَّة، التي تمثِّل معاناة الإنسان الجاهلي. من أجل ذلك يَمُدُّ الشاعر زمن هذا الصِّراع بين الثور الوحشي و(كلاب الصائد) ليستغرق الزمن كلَّه: «لَدُنْ غُدْوَة حتى أَتَى اللَّيلُ دونَهُ»، ثمَّ بعدئذٍ يقول:
وأَدْبَرَ كالشِّعرى وُضُوحًا ونُقْبَةً
يُواعِنُ(4) مِنْ حَرِّ الصَّريمةِ مُعْظَما
ليُشير بهذا إلى أنَّ لفظَي «غُدْوَة» و«اللَّيل» لا يعني بهما مدلولهما الزَّمني، وإنَّما عبَّرَ بهما عن الامتداد بلا نهاية للصراع، وإلَّا لكان متناقضًا؛ إذ كيف يُخبِر أنَّ الصِّراع بين (الثور) و(الكلاب) امتدَّ من الصَّباح إلى اللَّيل- مع بُعد هذا عن التصوُّر- ثمَّ يُتبِع ذلك بقوله: إنَّ الثور تخلَّص من الكلاب وانطلق يتَّقي حَـرَّ قائظة النهار، مشبِّهًا إيَّاه بـ(الشِّعرى) التي تطلع بعد (الجوزاء) في شِدَّة الحَـرِّ.(5) وهذا الامتداد الزَّمنيُّ غير النهائيِّ هو مدَى صراع الإنسان الذي يرمز إليه (الأعشى). بل إنَّه- في بيته ما قبل الأخير- ليُحِسُّ أنَّ صورة الثور الوحشي لا تفي بالتعبير عن جهده، فيومئ إلى أنَّه أشدُّ عناءً منه: «إذا الشَّاةُ يَومًا في الكِناسِ تَجَرْثَما»، وإنَّما شَبَّه به ناقته: « بَعْدَ الجَهْد».
ولعلَّ هذه العودة الصريحة إلى المشبَّه (ناقة الشاعر) من أدلِّ الأدلَّة على أنَّ الشاعر الجاهليَّ، إذ يَستغرق في تصوير (الثور الوحشي)، فإنَّما يفتنُّ في تصوير (ناقته)، أو بالأحرى تصوير نفسه.
[وهو ما سنواصل فيه المناقشة الأسبوع المقبل].
**_**_**_**_**_**
(1) ابن مُقْبِل، (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 41/3.
(2) (1950)، ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، شرح وتعليق: محمَّد محمَّد حسين، (مِصْر: المطبعة النموذجيَّة)، 295، 297/ 16- 29.
(3) هذا البيت يكرِّر البيت قبله. وقد أشار الشارح إلى رجحان أنَّه رواية أخرى لسابقه.
(4) كذا! وشُرِحت «يُواعِن» بأنها تعني: يدخل في الوِعان، جمع وَعْنَة، وهي الأراضي الصلبة، أو هي أماكن بِيض لا تُنبِت شيئًا. ولا نجد هذه المفردة لدَى شاعر آخر. ولعلَّها تصحيف «يُواهِق». والمُواهَقة: في السير: المواظبة ومَدُّ الأَعناق. (يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (وعن)، (وهق)). وهذا اللَّفظ هو الموافق، من حيث المعنى، وصفَ الشاعر.
(5) يُنظَر: ابن منظور، (شعر).
** **
(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا - الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)