د.محمد الدبيسي
ويورد الباحث ناجي الأنصاري أسماء نحو من (ثمانين) عالِمًا في تلك المُدَّة، مطلع القرن (الرابع عشر) الهجري، حين كانت السِّيادة العثمانية، مبسوطة على المدينة المنورة.
أمَّا في أواخر العهد العثمَّاني، فالهاشمي، وأوائل العهد السعودي، وهي المُدَّة التي انضَمَّ فيها الطيب الأنصاري إلى حقل التدريس في المسجد النبوي، فأورد ناجي الأنصاري أسماء علماء المسجد النبوي الذين بلغ عددهم (ستة وعشرين) عالِمًا من صفوة العلماء؛ ممَّا يعني استمرار النشاط العلمي في المسجد النبوي، رغم تراجع أعداد العلماء فيه، عمَّا كانت عليه في بدايات القرن (الرابع عشر)، بسبب ظروف الحرب والتهجير.
وإلى ذلك يقول عبدالقدوس الأنصاري: «وفي أواخر عهد الدولة العثمانية، كان المسجد النبوي يعجُّ بالعلماء سواء منهم المقيمون في الأصل بالمدينة، أم المهاجرون..، وفي أوائل عهد الدولة الهاشمية خفَّ ثقل العلماء في المسجد النبوي، إذ قلُّوا عمَّا كانوا عليه في أواخر الدولة السابقة كثيرًا، وسبب ذلك الهجرة الجماعية والفردية التي فُرضت على سكان المدينة، إلى ديار الأتراك وديار الشام، بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، وحصار المدينة الكارب الشديد، الذي فُرض عليها من سائر نواحيها من قِبَل الجيش الهاشمي...، وبعد نحو عامين أو ثلاثة، بدأت عجلة التدريس في جامعة المسجد النبوي تتحرك من جديد، وتجمَعُ بعض الطلاب على بعض المدرسين..» (عبد القدوس الأنصاري، أدبنا الحديث كيف نشأ وكيف تطور، ص 82-83).
وكان الطيب الأنصاري من بين أولئك العلماء، الذين استأنفوا نشاطهم العلمي في المسجد النبوي، بُعيد انقضاء الحرب العالمية الأولى، وبداية عودة المدنيين المُهجَّرين من بلاد الشام وتركيا، وبعض حواضر الحجاز، إلى موطنهم: المدينة المنورة، يقول عبد القدوس الأنصاري: «وعندما استقرَّت الأمور بعض الشيء، وبدأ توافد الأهالي العائدين من مُهاجرهم إلى المدينة زرافات ووحدانا؛ رأى الشيخ أنَّ الوقت قد حان ليفتح لنا درسًا في المسجد النبوي، وكان ذلك أواخر سنة 1339هـ. وقد فرحنا نحن الصغار كلَّ الفرح، وبخاصة أنَّه قد انظَمَّ إلى طلبة الشيخ إخوانٌ بعضهم أكبر منا سنًّا، وبعضهم من أقراننا في العمر» (عبد القدوس الأنصاري، المنهل، مج 42، شوال وذو القعدة 1401هـ=أغسطس/سبتمبر1981م، ص644).
ولم يشغل بال الطيب الأنصاري والأمر كذلك، بظهور إرهاصات الاستقرار في المدينة المنورة، وعودة أهلها إليها، إلا استئناف أداء رسالته العظيمة، التي استغرقت حياته، وأفنى عمره لأجل أدائها منذ عام (1337هـ=1918م) إلى أن توفَّاه الله.
وهي سبب ذيوع صيته، وعُلُو شأنه بين أهل العلم والمنتسبين إليه، وهي المجال الواسع الذي انفسح أمام تلاميذه لتتوطَّد الآصرة الإنسانية بينه وبينهم، وينشَدُّوا إليه، ويؤمنوا به والدًا ومُربِّيًا ومُوجِّهًا، و(زعيمًا إصلاحيًّا) على نحو ما شهدوا له به، ثمَّ علاقتهم به شيخًا وعالِمًا ومُعلِّمًا.
وعلى نحو ما كان أولئك التلاميذ: مشروعَه العِلمي والفكري والأدبي، وكانوا بحقٍّ صَنيِعَه القيِّم، وأثره الناجع، وحسناته التي أفاء بها على مجتمعه، وعلى حركة العلم والأدب والصحافة والإدارة بالمدينة المنورة بخاصة، وبالمملكة بعامة. وأوسع من ذلك وأعم بحسب ما يصف ذلك العالم والفقيه المدني عطيه محمد سالم، بقوله: «حِلَقُ الدروس بالمسجد النبوي، كان من أعظمها وأبرزها وأهمها: حلقة العلَّامة الجليل شيخ زمانه وفريد أقرانه، ممَّن لا تزال الألسنةُ تَلهجُ بالثَّناء عليه. ولم تزل آثاره في طلابه صفة مميَّزة، وهو فضيلة الشيخ محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري، شيخ شيوخ المسجد النبوي آنذاك» (عطية محمد سالم، من علماء الحرمين، ص428-429).
وهذه (الآثار: الصِّفة المميَّزة في طلابه) هي أثره الأبرز، الذي وازى حضوره العلمي، وتراكم مع الوقت في تكوين أولئك الطلاب، وتجلَّى في المسار الذي اختطَّه كلٌّ منهم، والإنتاج العلمي والأدبي الذي أنجزوه، والمكانة التي حازُوها في السُّبُل العلمية، والأدبية، والصُحُفية، والإدارية، التي انتحاها كلٌّ منهم، فاستوت وأينعت. وأصبحت مَحلَّ إجلال كل من أدركَ وخبرَ وشاهدَ، أو تابعَ وقرأَ آثار تلاميذ الطيب الأنصاري العلمية والأدبية والثقافية والاجتماعية.
وكانت جذورها ومعطياتها الأولى؛ قد تكوَّنت وتنامت في حلقات دروسه خلال (ثلاثين) عامًا تقريبًا، وهي المُدَّة التي قضاها مدرسًا في المسجد النبوي الشريف. الذي لم يكن المحفل الوحيد لتلك الدروس، وإن كان أشرفها وأكرمها، وأكثرها جلالًا وبركة.
ويصف تلميذه عبد القدوس ذلك في مُذكِّراته، بقوله: «وقد فُتِحَ هذا الدرس لأول مرة في جناح المسجد النبوي، الذي كان بين باب الرحمة والباب المجيدي. ثمَّ رُؤيَ بعدئذٍ أن ننتقل إلى داخل المسجد النبوي، حيث الأسطوانة التي تتدلَّى فوقها النَّجفة البيضاء الكبيرة. ثمَّ تتابع إقبال الطلبة على دروس الشيخ، فدخل فيها الشيخ محمد النعمان، والشيخ سيف بن سعيد، والشيخ محمد بن علي الحركان، والسيد علي حافظ، والأستاذ ضياء الدين رجب، وقد اتسعت الحلقة كثيرًا، فكانت من أكبر حلقات المسجد النبوي. ولا غرو فقد عُرِفَ عن الشيخ أنَّ في تدريسه الفُتُوح، والواقع أنَّ من المُجَرَّب أنَّه لم يقرأ عليه أحدٌ من الطلبة، إلا فَتَحَ الله عليه» (عبد القدوس الأنصاري، ذكرياتٌ غير مَنسِيَّة، المنهل، مرجع سابق، ص646).
ولاغَرْوَ أنَّ من يقرأ سِيرَ تلاميذ الطيب الأنصاري، يلحظ تلك (الفُتُوح) وعلاماتها، وتحقُّق مظاهرها فيهم. فُتُوحٌ وهب الله الشيخَ أسرارها، وأدركها العارفون من تلاميذه، ومن غير تلاميذه، كما ذكر ذلك محمد سعيد دفتردار في ترجمته..، بعد أورد أسماء تلاميذ الطيب الأنصاري، بقوله: «وكلُّهم -بفضل الله- قد نالَ الفُتُوح على يديه، وفتَحتْ الدنيا أبوابها لهم» (أعلام المدينة المنورة لمحمد سعيد دفتردار، ص185).
ثمَّ شهدوا له بما نالوه على يديه من تلك (الفُتُوح)، بعد أن عايشوا تجلِّياتها، وحازوا بركاتها، كما يقول عبد القدوس: «وكان وراء تعليمه للطلابِ سرًّا من أسرارِ الفُتُوح والنجاح، وهو أمرٌ - فيما نعتقد- ليس سرًّا مغلقًا، وإنَّما هو نتيجة للعلمِ والإخلاص والتوفيق» (عبد القدوس الأنصاري، أعلام العلم والأدب في جزيرة العرب: الشيخ محمد الطيب الأنصاري، المنهل، مج21، المحرم وصفر1380ه= يوليو وأغسطس1960م، ص250).
أو كما قال تلميذه الآخر ضياء الدين رجب واصفًا صنائع شيخه، و(مقام الفتح) الذي أُوتِي أسراره، وبلغَهُ تلاميذه بحُسنِ صنيعه وصادق جهده: «وإذا به يُخرِجُ من الضعفاء أقوياء، ومن الأقوياء أوفياء. وقد نظُفتْ عقولهم، وصَفَتْ نفوسُهم، وإذا بهؤلاء وأولئك كتلةً واحدةً متحابَّة متجانسة، إنها سِيامَة العقل قبل العِلْم، وعبقرية الصَّفاء، ومقام الفتح والإلهام، التي تصنع المُدهِشَات» (ضياء الدين رجب، التربية الخُلُقية في أسلوب شيخنا الشيخ محمد الطيب الأنصاري، مقدمة اللآلئ الكمينة شرح الدرة الثمينة، للطيب الأنصاري، ص303).
وهكذا كان تلاميذه ومبلَغَهم من العلم أو الأدب ومكانتهم فيهما؛ غير مبلَغ غيرهم من تلاميذ غيره من العلماء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ولذلك كان المبلَغُ العليِّ في العلم والأدب، الذي حازه تلاميذ الأنصاري محلَّ تأمُّلهم هم أولًا، ثمَّ دهشتهم بعد التأمُّل..!، ولم يجدوا مجالًا لتفسيره، وإدراك كُنْهه إلا بوصفه: (فُتُوحًا) أضاء الله بها سبيل العارفين، كما يقول عبد القدوس، واصفًا حالَ ومآلَ أمر أولئك التلاميذ: «فما اتجه أحدٌ منهم إلى أيَّة جهةٍ، إلا وظهرتْ براعتُهُ وعُرِفَ بالمقدرةِ والكفاءة..، سَمِّ هذا فُتُوحًا، أو بركةً، أو تربيةً صالحةً، وتعليمًا موفَّقًا» (عبد القدوس الأنصاري، أعلام العلم والأدب، مرجع سابق،ص250).
(يتبع)