سهام القحطاني
في حكايات المسائل النحوية هناك ظل من العنصرية.
هل ظل في قلب وعقل اللغوي العربي غصة أن مؤسس النحو غير عربي؟
قد يقول قائل إن المنطلق السابق فيه مغالطة للتاريخ؛ باعتبار أن أبا الأسود الدؤلي هو واضع علم النحو، وهو عربي ذو جذور غارقة في الأصالة العربية، وبالتالي فما بُنيت عليه الفرضية السابقة هو افتراض فاسد.
والرد هاهنا سيجعلنا نقابل بين أبي الأسود الدؤلي وسيبويه المؤسس الحقيقي لعلم النحو كنظرية ذات أصول علمية.
اعتبر المؤرخون وهم اللغويون، أن أبا الأسود الدؤلي هو المؤسس الحقيقي لعلم النحو؛ بسبب إنجازه الكبير في «تقعيد التنقيط»، وهي خطوة مهمة نقلت الكتابة العربية من الظلام إلى النور، كما كانت إرهاصًا مهمًا لعلم النحو فيما بعد.
وبالتالي فما قام به أبو الأسود الدؤلي رغم أهميته وقيمته في «تنوير الكتابة العربية» لا يمكن احتسابه كتأسيس لعلم النحو؛ لأن طريقته في الضبط كانت تعتمد على سليقته الصافية لا وفق العلل، وهنا يأتي فضل سيبويه الذي حوّل قواعد كلام العرب من «مبدأ المحاكاة باعتبار» أن النحو طريقة لمحاكاة العرب في طريقة كلامهم» -كما قال ابن جني-، إلى نظرية علمية تعتمد على علل المنطق، وربطها بمسوغات فكرية، أرهصت للنظرية البنيوية عند مفكري العرب مثل ابن جني وفلاسفة الكلام وخاصة الباطنيين.
فاستطاع سيبويه أن يحول النحو من مجرد محاكاة عمياء إلى محاكاة مبنية على الفهم والتعليل.
ونستنتج من ذلك أن إنجاز أبي الأسود الدؤلي رغم أهميته لا يمكن اعتباره كتأسيس لعلم النحو وإن كان هذا الإنجاز مهدّ لهذا العلم، أما الصفة التي أحاطت بأبي الأسود الدؤلي بأنه مؤسس علم النحو وشاعت في كتب المؤرخين فهي غير صحيحة في ظني، ولعلها شاعت باعتبار الأقدمية التاريخية إنّ أحسنا الظن، ولسحب الريادة عن سيبويه كمؤسس لعلم النحو العربي كونه من أصول غير عربية إن أسأنا الظن!.
ومع ذلك ظل في اللغوي العربي غصة من سيبويه الرجل غير العربي الذي أسس لعلم طالما تفاخر العربي بمهارته وتفوقه فيه.
هذه المفاخرة هي التي دفعته أن يُصدّر شعره كمقياس لقواعد اللغة قبل النص الديني، ولعل ذلك، كما ظن باعتبار أن الأولوية أحق بتصدر القياس فالشعر أسبق من النص الديني، كما أن النص الديني كان معيار محاكاة ونمذجة في رأيه للغته.
وهذا الظن «أضخم الأنا اللغوية عند العربي» حديث العهد بالإسلام، وهو ظن بلا شك غير صحيح/ فالنص القرآني الكريم لم يكن معيار نمذجة أو محاكاة للغة العرب، بل كان وسيظل إعجازًا لغويًا متفردًا، لكن العربي كان قياسه على الظاهر، وهو ما أنتج بعد ذلك ظواهر الشذوذ والاستثناءات في قواعد النحو العربي.
وهذه الإحاطة الظنية التي كانت تقود ذائقة اللغوي العربي للغة دون مسطرة علل، وجهله بعلوم المنطق وإستراتيجيات وضع النظريات خطفت منه السبق في تأسيس علم النحو إلى مسلم من غير الأصول العربية لتظل وصمة عار عند كل لغوي عربي.
لتظل هذه العثرة حسرة في فكر وقلب كل لغوي تتوارث عبر الأجيال لتظهر في كل جيل عبر مسارين؛ أولهما العداء لكل شاعر من أصول غير عربية واتهامه بعدم إتقانه لفهم وتطبيق قواعد النحو العربي، حتى وصل قمة هذا العداء لإبعاد شعر طائفة من الشعراء عن القياس.
أما المسار الثاني الذي كشف عن عقدة اللغوي العربي نحو الدخيل الذي أسس علم النحو العربي فتبلورت في المسائل النحوية ومن أهمها المسألة الزنبورية، التي كانت بين سيبويه إمام مدرسة النحو البصري والكسائي إمام مدرسة النحو الكوفي.
وكان الكسائي في ذلك الوقت معلمًا لابني هارون الرشيد، واجتمع الإمامان في مناظرة حشدّ فيها الكسائي مجموعة من الأعراب الأقحاح الذين ينطقون باللغة السليمة فطرة، كجمهور مُحكِم، لمناقشة موقع إعرابي في المسألة الزنبورية.
اعتمد سيبويه في رأيه على العلة التي تفوز دومًا في حوار العقل، وعندما أوشك الكسائي على الهزيمة، احتكم إلى جمهور الأعراب الأقحاح، فكان حكمهم لصالح الكسائي.
إن الاحتكام إلى سليقة العربي الذي فاز بموجبها الكسائي، كانت رسالة إلى سيبويه بأنه وإن كان مؤسسًا للنحو العربي فهو جاهل بلغة العرب، وقد فهم سيبويه هذه الرسالة العنصرية التي سربها إليه الكسائي بطريقة غير مباشرة.
كما أن نتيجة الحكم لم تخل من استغلال الكسائي لمكانته عند هارون الرشيد لكونه معلم ولديه، وهو ما جعل هناك احتمال إلى عدم نزاهة جمهور المُحكِمين الذين أحضرهم الكسائي!
لقد كانت رسالة الكسائي واضحة للجميع بأن العربي سيظل الوصي على النحو العربي والمتفوق فيه، هذا التعصب اللغوي للكسائي واستغلال مكانته ومؤامرة الأعراب على سيبويه لِزعزعة مكانته العلمية ودوره القيم في تأسيس النحو العربي هو الذي قهر سيبويه فمات كمدًا.
ورغم ذلك ظل سيبويه وكتابه مهبط علم في كل زمان، وظل اسم سيبويه مرتبطًا بتأسيسه لعلم النحو ونظرياته، أما الكسائي فظل ذكرى تراثية وحكايات هنا وهناك.