د.أحمد يحي القيسي
الفكرة ضالة المبدع، يترقب وحيها كل آن، ويظل يهتف لها من يباب رؤيته الفارغة، وكثيرا ما يلوذ إلى ركنه القصي عن العالم، ويهيئ مناخاته وطقوسه، كي تنساق له طوعاً. إنها أشبه ما تكون بهبة سماوية، تتنزل دون موعد، فيتلقفها المبدع بجم عنايته، ليجسدها بما أوتي من موهبة في قالبها الإبداعي.
ولئن كانت الظواهروخلجات النفس الإنسانية ميدانا رحبا تتقاطع فيه النصوص الأدبية بمختلف أجناسها، فإن قصيدة الهايكو تسلك طريقها إلى ما ينأى عن الاهتمام، لتحتفي باليومي والهامشي وما دونهما مما تغفل عنه الأنظار، فهي تنطلق من أبسط المشهديات وأدناها في الكون والحياة. وقد نجحت بعض التجارب العربية في الالتفات إلى المُهمَل من مُدرَكات الحواس، وصياغتها هايكويا، ومن هؤلاء الشاعر السوري/ عمر ضرغام.
تقتنص تأملات ضرغام أبعد التصورات عن تفكير المتلقي في المشاهد التي يحيطها برؤيته، فعن بيت عنكبوت مهجور يقول:
«شباك خاوية
في مكان ما
مات العنكبوت»
فهو يقيس ما يحدث في عالم هذه الكائنات الصغيرة بما يشاهده في عالم البشر، حيث البيوت المهجورة التي غادر ساكنوها الحياة، إذ قد نتفقد غياب البشر ونَحِن إليهم كلما مررنا بجوار مساكنهم الخاوية، ولكن من سيفتقد غياب هذه الحشرة؟
ومن مشهد مرئي إلى آخر صوتي، يفترض أن يستحث التأملات البصرية، خاصة أنه لزخة مطر في فصل الربيع، لكن تفكيرالشاعر يلتهي مع أذنه بالإصغاء إلى وقع القطرات في دلو فارغ، وصوتها يتغير كلما ازداد الهطول في قوله:
«زخةٌ ربيعية
تدريجياً يتغير اللحن
في الدلو الفارغ»
ومن قطرات المطر التي يتغير لحنها إلى قطرات الندى التي يلمح ثبات بريقها في كل الأحوال، حتى على الأعشاب الضارة، يقول:
«يا له من صباح
على الأعشاب الضارة، أيضاً
يتلألأ الندى»
وهذا النص عميق برمزيته التي ترمي إلى ثبات بعض البشر على مبادئهم مهما تبدلت الظروف المحيطة.
وتتناهى المشاهد في الصغر حتى وهو يتأمل صوره الفوتوغرافية القديمة، حيث تلفت انتباهه ظلالهم في الصورة، فالظل ظاهرة فيزيائية، يظهر ويختفي بحسب ابتعاد الجسد أو اقترابه من مصادر الضوء، لكنه في الصورة ظل كما هو ثابتا مُحَاصرا بالإطار، يقول:
«في الصورةِ القديمة
ظلالُنا أيضاً
حَبيسة الإطار»
وأخيرا، إليكم هذه المختارات من نصوصه:
لا تُشبِهني أبداً
أيُّها النَاي
فأنتَ تُسمِعُ الآخَرين
أمام الأنقاض
أحدهم يمسك نفسه
من شدة البكاء
توقف المطر
ثقيلةٌ على الهواء
الأوراق المبللة
الفتاةُ الوحيدة ـ
تَدسُّ حلوىَ العيد
في جيبِ دميتها
عند مدخل المدينة
يرحب بكم
الحاجز الجديد