حامد أحمد الشريف
-في الحديث عن المجموعات القصصيّة لا ينبغي الاكتفاء بلمحة بسيطة نمرّ من خلالها على كامل المجموعة دون التوقُّف عند أيٍّ من قصصها؛ فبخلاف التباين في ما بينها من حيث القوةّ والضعف والإبداع الذي يكتنف بعضها ولا يكون مع باقي القصص، نجد أنّه من الظلم عدم إفراد أو تخصيص كلّ واحدة منها بنظرة فاحصة، إذ إنّ كلَّ قصّة إبداعيّة لديها ما تقوله وتتمنّى الحديث عنه والتوقّف عنده، ولا تحمل وزر غيرها، وبالطبع لا يكون ذلك في الكلام المجمل. لعلَّ هذا ما اضطرّني لاستكمال الحديث عن كتاب «ليس هناك ما يبهج»، بمجموعاته القصصيّة الثلاث التي تستحقّ بالفعل التوقّف عند كلٍّ منها، كما هو الحال مع قصّة «لا أحد في القلب لا أحد في الطرقات» التي نجد فيها الراوي المتكلِّم يحضر بتقنيّة المونولوج الداخلي، ليطلعنا على الحكاية التي يعيشها إنسان يعاني من الاكتئاب ويريد التخلّص منه فيخيب سعيه.
استطاع الكاتب ببراعة أخذنا معه في تصوير بديع لصراع البطل مع الوحدة ورغبته الجادّة في التخلُّص منها، معتقدًا أنّ الحلّ في يد الآخرين، وبيَّنَ لنا كيف أنّه طرق عدّة أبواب للخروج منها، مستخدمًا الاتّصالات العبثيّة بأناس مجهولين، ورغبتَه في التحدُّث معهم، وانتهاؤه بنشر إعلانٍ يبحث من خلاله عن مستمعٍ جيِّد.
قصّةٌ غاية في الجمال، توقفك على حاجة الإنسان الماسّة لإخراج ما في جوفه من مشاعر وأحاسيس، ونثرها على طاولة الآخرين، وكيف أنّ هذه المعضلة، على بساطتها، قد تقضي علينا ،كما حدث مع بطلنا «عبدالواحد» الذي أوشك على الجنون، أو جنّ بالفعل، وهو يعتقد أنّ الوحدة التي يعيشها حتّى في اسمه إنّما سببها استقصاده من الآخرين ومحاولتهم النيل منه، فقرّر الهروب للنجاة بنفسه.
في قصّة «النواة» تسحرك اللغة الأدبيّة الأخّاذة، ويستوقفك مطوَّلًا جمال نظمها وشاعريّتها وجزالة لفظها، كقوله: «يغدو اللّيل مقبرة عندما تكون وحيدًا.
أبي كان حارسًا ليليًّا ظلّ كذلك حتّى سكَنَه اللّيل فمات. أذكر أنّه حينما كان يحتضر قرّبني إليه وهمس بصوت محروق:
- إيّاك وصحبة اللّيل! « انتهى كلامه.
وقوله: «تركتني مسمارًا يتدلّى من عنق اللّيل حتّى يسقط». انتهى كلامه.
قصّة قادتنا باحترافيّة عالية في الكتابة وجمال أخّاذ إلى فهم أنّ النجاة الحقيقيّة من كلّ الهواجس والهموم هي، باختصارٍ شديد، في العودة إلى الله.
وفي قصّة «إصغاء» التي كان أجمل ما فيها دهشة النهاية التي حملت مفارقة حالة الإصغاء التي تمّت بطريقة غاية في الروعة، وبالسلاسة المعهودة في قلم السارد، عندما وجد كلاهما سبيلًا لبثِّ همومهما في لحظة مسروقة اجتمعا عليها، وبدا أنّهما كانا بحاجة إليها. ولعلّ الجميل في كلّ هذا السرد الإبداعيّ، خلاف بساطته، أنّه قريبٌ من النفس، تشعر أنّه يتحدّث عن همومك الشخصيّة، بل إنّه بلغ من خلال هذه القصّة الإبداعيّة مرحلة استشراف المستقبل، فمع أنّ القصّة كُتبت في عام 1408 هـ أي قبل ستٍّ وثلاثين عامًا، إلّا أنّها تصوِّر واقعًا نعيشه اليوم، وكأنّها كتبت في هذه اللحظة. ولعلّ ذلك ما يميّز الكتابات الإبداعيّة التي تحمل عمقًا وغاياتٍ ورسائلَ صادقة تتجاوز الزمن، وتقترب كثيرًا من مشاعر وهموم قرّائها.
في قصّة «الأوراق»، نلاحظ أنّ مفردة «تمضغ» مستخدَمة بكثرة تثير النفور منها، رغم جمال استخدامها في البداية. مع ذلك، نعيش جمال العمق، والرسالة المضمّخة التي حدّثتنا هنا عن قيمة الإنسان عندما يصبح مجرّد ورقة تشير إلى إنسانيّته، وبدونها لن ينال حتّى أبسط حقوقه، رغم بساطة مطالبه التي اختُزلت في قبرٍ يواري سوأته ويحتضن رفاته.
وفي قصّة «الصورة»، وهي القصّة الأخيرة في المجموعة الثانية، دارَ الصراع حول الخوف وقدرته على الامتداد إلى الصورة، وهي فكرة جميلة تستحقّ التوقُّف طويلًا أمامها؛ فنحن نبتسم بالفعل عندما نشاهد صورة من نحبّ، ويخفق قلبنا طربًا، وقد نمسك بالصورة ونقبّلها. لكنَّ حالنا مع صورة من كان يرعبنا مرتبكة إلى حدٍّ ما، لا نعلم إن كنّا سنتعامل معها كصورة جامدة لا حياة فيها، أم ننساق خلف مشاعرنا المرعبة، ويصعب علينا اقتلاع الخوف من نفسنا، فلا نستطيع النظر إليها؛ أم أنّنا سنصاب بالقهر ونحن نستشعر عجزنا عن تصفية حسابتنا مع صاحبها، رغم موته واختزاله فقط في صورة… ذلك كان الصراع الذي عرفنا من خلاله كامل الحكاية، وهي تغذّي عقولنا وجوارحنا بشكلٍ منجَّم ومتفرِّق، يسمح لنا أن نعيشها بأدقّ تفاصيلها، بحيث يتنامى فهمنا لها، وإحساسنا مع بطلها. وكأنّ السّارد علم بحنكته أنّه لا يعنينا غيرها في قصّته، فلم يشغلنا بغير متابعة هذا الصراع، من دون أن يكلِّ قلمه تدوين اسم بطل القصّة الذي لم يكن يعنينا على الإطلاق، إذ جعلنا سرده لا نهتمّ إلّا بحديثه مع نفسه، وعدم قدرته على النهوض بأبسط الأمور، وبالتالي فشل في تصفية حساباته مع والده، إلى حدّ أنّه لم يتمكّن من تحقيق أمنيته بالبصق على وجهه، رغم موته.
في هذه الحكاية ما يشير بطرفٍ خفيّ إلى كيفيّة تفكير عوامّ البشر بعلاقة الأب مع الابن، غامزين من زاوية الابن فقط، بوصمه بالعاقّ، بينما يغيّبون الأب تمامًا، رغم أنّه يُفرط أحيانًا في استخدام صلاحيّاته، ويجور كثيرًا على ابنه؛ ما جعل بطل قصّتنا يصف نفسه بأنّه أصبح يحمل جسدًا معطوبًا في كلّ أجزائه، بسبب العقاب البدني الذي يناله بدون ذنب، حتّى غدا يجوب الشوارع كالمجنون، خشية أن يعود والده من مرقده الأبديّ وينتقم منه، بينما يطارده الصبية الصغار ويسخرون منه. لكن، في النهاية، استطاع تخطّي عقدته، والبصق على صورة والده، الأمر الذي ولّد لدينا سؤالًا مهمًّا: هل يقع اللوم في هذه الحالة على الأب، أم على الابن؟! سؤال يجعلنا، كما جرت العادة، نرتبط بالسرديّة القصيرة، ونستديم حضورها في عقولنا وأفئدتنا.
في المجموعة الثالثة «من يغنّي في هذا الليل» ينتقل بنا الكاتب إلى قصصٍ من نوع مختلف، تحمل قدرًا أكبر من التورية، وتبتعد عمّا اعتدناه في المجموعتين الأولى والثانية من واقعيّة متخيّلة سهلة الهضم. وهو ما ظهر في القصّة الأولى التي أتت على هيئة نصَّين، حمل الأوّل عنوان «الجدار»، الذي لازم عنوان النصّ الثاني مع بعض اختلاف إذ عنونه «الجدار مرّة أخرى». القصّة الأولى هي عبارة عن رؤيا مناميّة تشير إلى وضعٍ صعب يعيشه هذا النائم، ثمّ يكتشف بعد استيقاظه أنّ لحافه أصبح جدارًا لا يستطيع التخلُّص منه. بينما تضمّنت القصّة الثانية أحلام يقظة وتوهُّمات تنتهي أيضًا بجدارٍ ينبغي هدمه والتخلُّص منه. بدت هذه الحكاية ملغّزة ويصعب فهمها، إذ وجدتُ بالفعل صعوبةً كبيرة في الوقوف على مغزاها رغم معاودتي قراءتها أكثر من مرّة؛ فلا شواهد يقينيّة تحسم الجدل حول معانيها، وإن كانت - في ما يبدو - تشير إلى التراكمات التي يعيشها الإنسان في مشاعره أو سلوكيّاته، وتتحوّل مع تقادم الزمن إلى جدارٍ يصعب هدمه إن كانت هذه السلوكيّات سيّئة، كما قد يصبح مستحيلًا عندما تتخطّى ذلك وتصل إلى مشاعر الخوف المكتوم داخلنا والذي لم نتخلّص منه في وقته. وبذلك نكون نحن من رفع هذا الجدار، وأقمناه بأيدينا طوبة طوبة.
كأنّي بهذه القصّة تريد إفهامنا أنّه علينا التنبُّه مبكِّرًا قبل ارتفاع الجدار داخلنا، ووصوله إلى مرحلة لن يكون باستطاعتنا غير الاستسلام له. في ظنّي، هذا ما تشير إليه الحكاية في مستوى فهمها الأوّل، لكنّها تحتمل معانيَ أخرى، فنجدها تحاول إيقافنا على حالةٍ إنسانيّة يعيشها البعض عندما يحصر نفسه في قالب واحد، ولا يلتفت إلى غيره مطلقًا، كصاحب البطّانيّة الذي لم يكن يهتمّ بسواها، في وقتٍ كانت حياته كلُّها فوضى مرضيّة تكاد تقضي عليه، وهو يصرُّ على تجاهلها، ويرى متعته في الاختباء تحت تلكم البطّانيّة. ومثل هؤلاء موجودون، بطبيعة الحال، ويعيشون في فوضى عارمة بسبب استمتاعهم بفكرة واحدة يعيشون من أجلها، كمدمن الجنس الذي لا يرى بهجة وسعادة إلّا في ممارسته، بينما حياته كلُّها تتهاوى أمام عينيه. في النهاية، لا يمكننا رفض هذا النوع من القصص الذي يمنحنا بعض الفهم رغم صعوبة أسلوبه واحتماله الكثير من المعاني.
في قصّة «وقال واصب... وامعنى» نجد الحديث عن الحظّ العاثر الذي يقودك دائمًا إلى النهاية السيِّئة التي تخشاها مهما بالغت في الحيطة والحذر، ويعَدُّ ذلك من المعاني المتداولة، فكثيرًا ما يقال «أعطني حظًّا وارمني في البحر»؛ فبدون الحظّ تصعب الحياة، بل قد تستحيل علينا... ذاك ما كان يعيشه بطل قصَّتنا الذي وقفت الحياة في وجهه وجرّدته من كلّ ما يملك. وفي النهاية، عاد خالي الوفاض بعد فقده كلَّ شيء. ولم يحاول السارد حلَّ هذه الإشكاليّة، بل تركها هكذا بدون حلّ. ولعلّه أراد بذلك إفهامنا أنَّه علينا التماهي مع حياتنا، فقد لا يكون باستطاعتنا تغييرها مهما بلغت قوّتنا. وأظنُّني أتّفق معه على هذا المغزى العميق.
في قصّة «من يغنّي في هذا الليل» نجد السارد قد تعمّد الإتيان بحدث ما يختلف فهمنا وتعاطينا معه تبعًا لفكرنا وظروفنا وقناعاتنا. فالصوت الشجيّ العذب الذي كان يغنّي بعد منتصف اللّيل لم يكن جوهر الحكاية، ولم يكن معنيًّا بصراعها بقدر ما كان مفتاحًا وظّفه السارد بذكاء ليوقفنا على أصل الحكاية التي يريد نقلها، والتي تكشف أنّنا كمجتمعاتٍ وأفراد نكيِّف الأحداث ونفسّرها ونتعامل معها حسب معتقداتنا وفكرنا وجنسنا وأعمارنا. وقد أجاد في ذلك عندما وظّف التبئير والرواة بطريقة رائعة، فأعطى الصوت لكلّ واحدٍ من أولائك النفر المستهدَفين، وسمح لكلٍّ منهم برواية الحكاية بتبئيرٍ مختلف كلِّيًّا، بحيث يتناسب مع مكوِّناته العقديّة والأخلاقيّة والنفسيّة، وظروفه الاجتماعيّة، وجنسه وعمره... لنتمكّن نحن في نهاية الأمر من فهم الرسالة التي أراد إيصالها، ومفادها أنّ الأحداث تتكرّر دومًا بالتفاصيل نفسها، وما يتمُّ تناقله حولها غالبًا ما يكون من صنع أيدينا، ولا ينبغي الالتفات إليه. كذلك قد نفهم من هذه الحكاية الإبداعيّة أنّ بعض الحكايات المتناقَلة لا أصل لها، وإنّما تصنعها ظروفنا وحاجاتنا الإنسانيّة. الأمر ذاته ينطبق على الرؤى والأحلام الليليّة التي غالبًا ما تكون انعكاسًا لحاجاتنا الإنسانيّة. وكما يقال: «الجيعان يحلم بسوق العيش».
وفي الخلاصة، إنّنا ما زلنا، ونحن نمرّ على هذه القصص الرائعة، نستظهر أنّ القوانين لم توضع لذاتها وإنّما لما يتحقّق من ورائها؛ فقوانين الأمن هدفها إشاعة الأمن والطمأنينة، ولا قيمة لها إن لم يكن هذا ناتجها النهائي، حالها كحال قوانين السرد التي أراد الكاتب إفهامنا أنّها وُضعت للخروج بأعمال إبداعيّة، فإن لم نستطع توظيفها لتحقيق ذلك ستكون وبالًا علينا.
في قصّة «البرد» أراد السارد أن يأخذنا بعيدًا في حكايته المطلسمة التي يصعب فهم أبعادها ومدلولاتها، فنجد أنّنا نكاد ننطلق من عبارته التي قال فيها: «الحركة أن تسير عكس اتّجاه الموت وألا تسير وحيدًا». ولعلّ جوهر الصراع الذي نقلته لنا الحكاية يتعلّق بالحركة إذا ما نظرنا إلى المتجمهرين حول المدفأة وسكونهم، وعجزهم عن النهوض بأيّ فعل ممكن، كسحب المزلاج وفتح الباب، مقارنة بطارق الباب الذي كان يفيض حيويّةً ونشاطًا. وكان في دخوله على السرد ما يشير إلى المعنى ذاته، وهو أنّ جوهر حياتنا هو في حركتنا البنّاءة فقط، في ظلّ أن هناك حركة تقودنا إلى الموت، وقد أشار إليها السارد في قصّة الفارس الذي أصمته سهم اخترق مثانته وأغرقه في بوله، وفي ذلك امتهان له. وكان شاهدًا على أنّ الإيغال في القتل بدون هدفٍ، والغطرسة والغرور، هي حركة، لكنّها معاكسة للتيّار ولا طائل من ورائها، إن لم تأخذنا إلى ميتة غير مشرِّفة.
الجميل في هذه القصّة أنّ مفارقة النهاية ابتعدت عن كلّ هذه الفلسفات العظيمة وأعادتنا إلى نقطة الصفر، وهي تخبرنا أنّنا غالبًا ما نختار السير في ركاب الجماعة حتّى وإن قادتنا إلى حتفنا، وأفقدتنا الجمال الذي نعيشه. فالطارق تخلّى بسهولة عن السعادة والحيويّة اللتين كان ينعم بهما، وانضمّ إلى القطيع فور رؤيته له. وفي ذلك فضح حقيقيّ لذواتنا، إذ إنّنا غالبًا ما نحتمي بسلوك الجماعة وننصهر داخل قوانينها حتّى لو أفقدتنا الحياة، بينما علينا الحركة باتّجاه الحياة وترك المجتمع الذي إمّا أن يبقى ساكنًا في مكانه بانتظار الموت، أو يخطو باتّجاهه. فهو غالبًا ما يبحث عن النهايات السيِّئة.
في قصّة «ألق»، ورغم العنوان المبهج الذي يدعو للتفاؤل، نجد الحديث يدور حول النهاية المعتمة التي يعيشها أحدنا عندما ترتبط علاقته بالآخرين بالمصلحة، كهذا الرجل الذي حمل على عاتقه رواية حكايته بكلّ تفصيلاتها، بعد إزاحته الراوي العليم الذي اكتفى بإدخالنا إلى الحكاية بطريقة جميلة ورمزيّة، وهو يطلعنا على تعلُّق مريضٍ بالباب بحثًا عن زوّار يؤنسون وحدته. ليسلِّم بعدها زمام الحكي للراوي المتكلِّم، الذي أخذ يطلعنا على قصّته الحزينة، وهو يبحث عن لحظة انبساط وسعادة وهميّة مع أناس لا يمتلكون مقوِّمات الصداقة الحقيقيّة، فيتغاضى عن كلّ سلوكيّاتهم السيِّئة في مقابل رغبته الملحّة في عيادتهم له، بينما كشف هذا الموقف عن معدنهم الحقيقيّ وسوء اختياره لهم. وهو ما تكرّر حدوثه مع زوجته التي أظهرت قبح جوهرها وقت مرضه، إذ قرّرت خيانته والتلهّي عنه. ومع أنّ هذه الحكاية مكرّرة ومبتذلة، إلّا أنَّ حِرَفيّة السارد ارتقت بقيمتها من خلال دهشة نهايتها ومفارقتها، عندما أوصلتنا إلى أنّ الطارق الذي كان يبحث عنه بطلنا لم يكن زوجته أو أصدقاؤه، وإنّما كان الموت الذي يظهر من العنوان أنّه هو الوحيد القادر بالفعل على منحه الألق الذي يبحث عنه، وهو ما تحقّق مع عتبة النهاية الجميلة التي صمتَ بعدها قرع الجرس.
في قصّة «اها ها ها» تظهر الفنتازيا التخيّليّة المغرقة في التخفّي بابتعادها عن أيّ زاوية محدّدة يريدها القاصّ تاركةً لك اختيار الزاوية التي تريدها أنت لتلصقها بالنصّ. وكما هو معلوم، فإنّ هذا النوع من القصص الذي لا يحتوي على إشارات أو سيميائيّات واضحة ومحدّدة تشير إلى المعنى، يُعَدّ معيوبًا، يفتقر إلى شرطٍ مهمٍّ من شروط السرد، وأعني بذلك رسم الطريق السّالك الذي يقودك إلى المعاني، أي ربط المعاني بمنطوق النصوص. ولكن، في ظنّي، إنّ النصّ رغم ذلك، يبدو قادرًا على النهوض بدون الحاجة إلى هذه الإشارات، بسبب اتّخاذه الحكاية كلّها، بعتبة عنوانها، شاهدًا يوصلنا إلى المعاني العميقة التي يستهدفها، كما يظهر من اتّخاذ البعض للضحك وسيلةً يفرّون بواسطته من سوء واقعهم؛ فكلّ هؤلاء الضاحكون إنّما جمعتهم الرغبة في الضحك بدون سببٍ محدّد يدفعهم لهذا السلوك، بدليل أنّ بطل الحكاية عندما أعيته الحيلة، ذهب هو أيضًا في الاتّجاه نفسه وشاركهم الضحك. وكأنّ السارد يريد إخبارنا أنّ الحياة تافهة جدًّا ولا تستحقّ غير الضحك والسخريّة منها، إذ لا أحد قادر على التغلُّب عليها ومواجهتها بغير الضحك.
في قصّة «مسامير بحر سلمى» نجد النهاية التي غالبًا ما يقتنصها البحر لكلّ حكاياته، ولم تكن تبتعد عن الموت والفقد، وهو ما حدث بالفعل حين تحوّلت أهزوجة الخبيتي «ليه يا سلمى» إلى دماء تشير إلى الموت، والخراب الذي حمله البحر للخائضين أمواجه…
في قصّة «الحافلة»، نشعر أنّنا ما زلنا نعيش الفنتازيا والقصص الملغَّزة التي يصعب فهمها والإحاطة بعمقها، وفهم رسالتها، وإن كنت أميل إلى النظر إليها من زاوية ثنائيّة الصمت والكلام، وقدرة كلٍّ منهما على تحريكنا؛ فرجل الباص الغامض لم يفعل شيئًا سوى الجلوسِ ساكنًا صامتًا في مكانه، ولم يوظِّف حتّى جسده للتواصل مع المحيطين به، بينما كان السائق ومساعدُه يراقبانه، متوجّسَين منه، وبالتالي سمحا له بإدارة الصراع وقيادة الحدث، رغم صمته المقلق، من خلال انشغالهم بمراقبته وتحليل تصرّفاته، وتوقُّع ردّات فعله القادمة. ومع ذلك، فقد عجزا عن التماهي مع الموقف والتعامل معه بشكلٍ جيّد، وأخذا يتخبّطان في قراراتهما، حتّى صرخ السائق في وجه مساعده قائلًا: «أكاد أن أنفجر»، معلنًا نهاية الحكاية، والرجل لا يزال قابعًا في مكانه ولم ينطق ببنت شفة.
والشاهد هنا أن السارد - في ما يبدو - أراد من خلال هذا الصراع التخيّلي، بمشهديّته المتقنة، إيقافنا على حقيقةٍ ربّما يعلمها جُلّنا، وهي أنّ الصمت يعَدّ السلاح الأقوى في أيدينا، فمن خلاله يصعب على مناوئينا مواجهتنا وإعداد الخطط للتصدّي لنا، وهو طريقة نستطيع بواسطتها إشغالهم بأنفسهم واستنفاد مقدّراتهم البدنيّة والعقليّة، وتشتيتهم والانتقام منهم، وهو ما يصعب تحقيقه في المواجهة المباشرة وإعلان المواقف صراحة. لعلّ ذلك ما تحقّق بالفعل في الحافلة التي أكملت دورتها الأولى وتستعدّ للدورة الثانية، وهما لا يزالان يتخبّطان في تفسيراتهما وتأويلاتهما، بينما بقي الرجل مصرًّا على صمته الذي جعلهما يتحرّزان من كلّ شيء، ويفعلان كلّ شيء من دون أن يُطلب منهما. هكذا جعل الصمت كلّ القوانين والقواعد محلّ مراقبة…
قصّة غاية في الروعة، توقفنا على القيمة الحقيقيّة للصمت، وعدم إعلان المواقف.
في الجزء الأوّل من قصّة «أنفاس الموت»، بدا جميلًا التردُّد الذي عاشه طبيب استزلّته زوجةٌ مكلومة توشك أن تفقد زوجها، فلم يستطع إخبارها بوفاته، ما جعله يندفع في كلّ مرّة بالقيام بأفعال خرقاء استجابة لخوفها وجزعها. حتّى كانت النهاية الصادمة، عندما تكتشف كقارئ أنّه وقع ضحيّة مقلب متَّفَق عليه بين الزوجة وزوجها الميت! لفتني التردُّد في هذه القصّة، بكتابته البديعة، وصوره الجميلة، ولغته الباذخة، ومشهديّته الرائعة، رغم ضعف البداية وصعوبة تمرير الموقف المسرود؛ فلا يُعقل خداع الطبيب بهذه البساطة، ناهيك عن قبول الزوج الذي ادّعى الموت لحقنه بإبرة لا يعرف كنهها.
من ناحيةٍ أخرى، بدت القصّة ضعيفة في مغازيها وعمقها ومدلولاتها، إذ لم يكن واضحًا أيُّ معنى يمكن الوصول إليه من خلالها، ولم تتبدّد عتمتها حتّى في أجزائها اللاحقة المفكَّكة التي لا تظهر فيها وحدة الموضوع، وهي أقرب ما تكون للحكايات السطحيّة المشتّتة التي لا يُستقى منها أيُّ معنى، أو لنقل، إنّني لم أستطع التماهي مع أيٍّ من مستويات فهمها، رغم عدم إنكاري لجمال كتابتها، وقدرة السارد على تدوينها بهذا الإتقان، وقدرتها على الأخذ بتلابيب القارئ لإكمالها حتّى النهاية بمشهديّتها المستفزّة ومفاجآتها الرائعة التي تجعل القارئ يكملها وهو يتلمّظ جمالها وإن لم يفهم منها شيئًا. والعجيب أنّ قصّة كهذه لن تجعلك تسخط على الكاتب، فهي كالحلوى اللذيذة التي نُقبل عليها ونفرح بها، ونلتهمها بشغفٍ كبير، رغم علمنا أنّها غير مغذّية ولا تُصمت جوعًا. ولعلّ ذلك كان المغزى منها، لكسر قاعدةٍ من قواعد القصّة، وتحدّي النقّاد بها.
مع قصّة «في انتظار سيّدة الماضي» نشعر أنّ السارد لم يكن يهمّه غير البوح بما يكتنزه من مشاعر وأحاسيس ذابلة طوتها السنون والأيّام، وأصبح يقتات عليها ليتأكّد أنّه لا يزال يعيش الحياة، ولا يزال قلبه يحتفي بشيءٍ غيرِ عمله الميكانيكي المعتاد. وهو ما أشار إليه بكتابته صوت قرع النعل الذي يشبه نبض القلوب وهي تضخّ الدماء وتستديم عبورنا إلى سنوات الحياة... لم تهتمّ هذه الحكاية أيضًا بالمغزى والعمق اللذين يمنحانها القيمة، فقيمتها مرهونة بهذا النبض الذي يتقلّب بين الفعل المجرّد والإحساس، وهو قيمة بالفعل؛ فالبشر، على عمومهم، يعيشون هذا التبدُّل، وإن كانوا يقضون جلّ أوقاتهم يقرعون الحياة بنبضات قلوبهم المجرّدة من أيّ إحساس، كما كان يفعل عبدالمحسن، صديق السارد، الذي أتي به على ذلك النحو ليظهرَ لنا حياة البشر عندما يتخلّصون من المشاعر التي بقدر ما تسعدهم تستبقيهم في انتظار أحلام لا مكان لها غير الخيال. قصّة بمثابة بوحٍ شخصيّ، غير معنيّة بأيّ اشتراطاتٍ أخرى، إلّا أنّها، من جانب آخر، استطاعت ببراعة وبرمزيّة إيجابيّة محبّبة، أن تبقينا في إطار متابعة إبداع السارد وقدرته على الأخذ بأيّ حكاية بسيطة يتداولها عوام البشر، ليخلقّ منها قصّة إبداعيّة.
في القصّة الأخيرة «أيها القبيح ابتعد»، نجد أنّ السارد استطاع اختزال الصراع في نقطةٍ واحدة، أو لنقل، في سؤال يتكرّر كثيرًا، ويتلخّص في محاولة البعض النيل منّا بسبب خلقتنا التي لا ذنب لنا فيها والتي هي نتاج عوامل وراثيّة تُبقينا مرهونين لها إن كانت سيّئة، أو نعتاش من ورائها إن كانت جيّدة. ومع أنّ لا ناقة لنا في ذلك ولا جمل، نجد أنّ البعض يحاسبنا على ذلك، ويقلّل من شأننا بسببها، أو يكافئنا عليها! ذلك ما جعل البطل يعيش تلك التجاذبات النفسيّة وهو يتذمّر من وجهه القبيح، قبل قراره النهائي بإطلاق الرصاص عليه بعد أن سئم منه. لقد أشغله قبح وجهه الذي لا يمثِّل قيمته الحقيقيّة عن الممارسات الحياتيّة التي كان ينبغي أن يَلتفت إليها، ويُفترض أنّه سيحاسَب عليها.
لقد جعلتنا هذه المجموعات القصصيّة نرى صاحبها مترعًا بالألق والجمال، بما فيها من قوّة البدايات التي يُفترض أن نتوقّعها في النهايات، حيث ينبغي على المبدع المحافظة على ألق قلمه وفيض إبداعاته. ما يحثّنا على توجيه السؤال لساردنا الجميل عبده خال: كيف لهذا القلم أن يتوقّف عن كتابة القصّة القصيرة ويتنكّر لها، وينشغل فقط بالرواية؟!