د.نادية هناوي
لا خلاف في أن سارد الرواية أحادية الصوت هو الماسك بزمام السرد والمتحكم فيه، يوزع الأدوار بين شخصياته توزيعاً مقصوداً. وإذا حددنا القول في السارد الموضوعي وجدنا الأحادية بادية في طريقة تماهيه مع شخصية ما من شخصياته، معطياً إياها مركزية سردية أكثر من غيرها، مبئراً الأحداث لصالحها، وقد يتمسرح في أفعالها ويشارك بفكره في حواراتها مقدما رؤيته السردية من الداخل أوالخارج. وهو ما يجعل هذه الشخصية محورية ببطولة دراماتيكية حية وحرة أكثر من غيرها من الشخصيات الأخرى التي لا يتاح لها التعبير إلا في سياق ما تؤديه الشخصية المحورية من أفعال وأقوال.
وليس مثل اللغة وسيلة بها يتمكن السارد من التماهي مع هذه الشخصية فيستعمل مختلف أساليب التعبير الكلامي مفيدا من تقانات تيار الوعي كالمونولوج والتداعي الحر والحوار المروي أو أنا الراوي الغائب والحوار المباشر وغير المباشر. وأهم ما تعنيه مركزية السارد الموضوعي أنه ذو منظور إيديولوجي يعبر عن وجهة نظر أحادية.
وعلى الرغم من وجود الشخصية المحورية، فإن دور هذا السارد يظل فاعلا في السيطرة على الشخصيات التي لا تستطيع شيئاً من دونه لأنها غير مؤهلة لأن يكون لها صوتها الحر والمستقل ولا هي قادرة على بلورة وجهة نظر أيديولوجية خاصة بها تعبر عن ذواتها بمفردها. وهذا هو ما يخالف الروايات البولوفونية التي فيها تتعدد الشخصيات بتعدد السرّاد ومعهم تتعدد وجهات النظر، وأهم ما يعنيه التعدد اللساني في وجهات النظر المؤلفة للخطاب السردي هو أن الشخصيات قوية غير مهزوزة تفيد من ديمقراطية السارد/ المؤلف فتعبر عن ذواتها بصوتها غير مراقبة ولا مرصودة مجازاً. فتغدو الرواية موسومة بأنها ذات منحى حواري، وخطابها يكون دراميا. وبالطبع لهذا التعدد في بنية الخطاب السردي تبعات وصلت بالرواية الى اللارواية أو الرواية المضادة أو الميتارواية.
وشتان بين حوارية تريد إفراد كل شخصية لوحدها وبخصوصية واستقلالية متحررة من ربقة سارد ليس له أية نيابة أو وصاية أو تبعية عليها، وبين شخصية تتكلم بصوت ساردها الذي ينوب عنها في التعبير عن خصوصيتها. ومحصلة هذين الحالين أن يغدو المنظور الروائي واحداً من اثنين؛ فأما هو متعدد الأصوات والرؤى، وأما هو أحادي الصوت والرؤية.
ولكن ألا يجدر بنا أن نتساءل عن مدى إمكانية السارد الموضوعي في أن يكون ضامناً مركزيته وفي الآن نفسه لا يحول دون أن تكون لشخصياته استقلالية داخل منظومته السردية، سامحا لكل واحدة منها أن تمتلك بنفسها صوتها بحيث لا يتعارض تعددها اللساني مع مقصدية السارد في التعبير عن وجهة نظر أحادية؟ بعبارة أخرى هل يمكن للشخصيات أن تكون حرة وتتكلم باستقلالية وديمقراطية مع أنها تحتاج من ينوب عنها في التعبير عن نفسها متحكماً في مصيرها وهي تؤدي دورها السردي؟
لا شك في أن مثل هذا التصور غير معقول ولا منطقي إذ كيف يكون الخطاب أحادي الصوت على مستوى السارد وحوارياً على مستوى الشخصية، وبعبارة أوجز لا يمكن للرواية أحادية الصوت أن تكون مثل نظيرتها متعددة الأصوات وفي مصاف فواعلها السردية. بيد أن هناك حالة واحدة وهي أن يكون الخطاب السردي غير واقعي، أي يتجاوز منطقة العالم الموضوعي الذي تتحكم فيه المحاكاة الأرسطية ليدخل في منطقة غير واقعية تمتاز باللاطبيعية سواء في أنماط الخطاب اللغوية أو في أساليب الوصف وبناء الأمكنة، وعند ذاك سنتصور الخطاب السردي الاستحالي وغيرالمنطقي خطاباً ممكناً وطبيعياً حاله حال الخطاب السردي الواقعي.
وهذا التلاقي المجازي الذي يجعل غير الواقعي كأنه واقعي وما يتبعه من اختلاف في استراتيجيات قراءة مظاهر هذا النوع من السرد هو ما صار يهتم به علماء جمعوا السرد بالعقل بدءاً من نظرية ديفيد هيرمان في السرد المعرفي ومروراً بنقاد السرد ما بعد الكلاسيكي مثل جميس فيلان وجيرالد برنس وروبين وارهول وانتهاءً بطروحات السرد غير الواقعي عند كل من جان ألبير وبريان ريتشاردسون وهنريك سكوف نيلسن وستيفان إيفرسن وماريا ماكيلا والصيني بيو شانغ وغيرهم.
وقد كشف هؤلاء النقاد عن منهجيات في دراسة الفواعل اللاممكنة في السرد غير الواقعي وتحليل تمثيلاتها الخيالية غير المتجانسة وإمكانيات السارد بضمير الشخص الأول أو الثالث في تجاوز نمطية السرد الواقعي وصنع عوالم مستحيلة باستعمال أساليب وأشكال جديدة على المستويين الثيماتي والبنائي مما هو حاصل في أعمال قصصية وروائية لبيكيت وبورخيس وكالفينو.
ومن الاستراتيجيات المعتمدة في السرد غير الواقعي- والتي لا فرق فيها بين رواية ذات صوت واحد ورواية ذات أصوات متعددة -استراتيجية(العناصر غير الواقعية) التي طرحها الناقد الصيني بيو شانغ، مبيناً أنه كلما زاد عدد العناصر غير الواقعية في النص السردي، تضاعفت غيرالطبيعية وغدا الخطاب هو الوسيلة في التجسيد السردي وهو الغاية أيضا في التعبير عن نفسه بنفسه وليس التعبير عن الواقع وهو ما سماه شانغ «الانتباذ الوجودي». الذي من خلاله يكشف السارد أو السراد عن وجهة نظر ايديولوجية واحدة أو متعددة تستاء من العالم مغتربة عنه ومتطلعة الى عالم آخر فيه تجد ذاتها.
ويمكن للمكان أن يكون عنصراً غير طبيعي بالوصف مغادرا وظائفه المحددة من قبيل انفصال الصورة الوصفية عن الصورة السردية أو من ناحية توظيف رواية تيار الوعي لإظهار دواخل الشخصيات أو من ناحية ما استعملته الرواية الجديدة من وصف شعري به يصنع السارد عالما يعاكس العالم الموضوعي ويدخل معه في صراع.
وفي هذا التوظيف أمران: الأول أن الشخصيات ستبدو مهمشة وثانوية بسبب سيطرة الفواعل السردية غير الحية عليها، والثاني مركزية المكان التي تجعل لتلك الفواعل صوتا يغيب فيه صوت السارد الموضوعي فيبدو كأنه غير موجود. والقصد من وراء توظيف المكان عنصرا غير واقعي - به تخرق الاشياء أو الموجودات العالم الموضوعي - هو إعادة إنتاج هذا العالم.
ومن محصلات مركزية الوصف المكاني أن ستغدو للمكان وجهة نظر فيها تتكشف القطيعة بين حياة ذات علاقات اجتماعية تعيشها الشخصيات وبين حالة انعزال نفسي واغتراب ذاتي تتسلطان عليها. وهو ما يكون التعبير عنه بسيناريوهات مستحيلة أو بمشاهد دراماتيكية وبارانومية غير محتملة حيث كل شيء وارد فيها على سبيل الاستعارة كتعابير لسانية غير ممكنة واقعيا لكنها منطقية سرديا.