د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
أشرع معرض الرياض الدولي للكتاب راياته الخميس الماضي الثامن والعشرين من شهر سبتمبر الجاري 2023؛ في توجه مُلهِم يعزز التفاهم الثقافي بين الشعوب من خلال دور النشر العارضة من خارج بلادنا؛ ومن خلال المثاقفة في الطروحات المصاحبة للمعرض, وجاء المعرض مبشراً بالمضامين المحمودة في كافة العلوم، وحمل الجمال والفن والتراث؛ عاكساً صورة مشرقة عن تحفيز بلادنا للثقافة بما يستحق أن يصاغ فيها.
وجاءت دولية الكتاب في المعرض بوصلة تشير إلى أن بلادنا عبقرية فذة تبحث عن مساقط الغيث وتنزلُ في مغانيها، كما تشير أيضاً أن فوق صحرائنا الشماء وجهاً حضارياً مشرقاً عريقاً ترتاده الأمم..
وجاء معرض الكتاب الذي يحمل ممكنات التحدي نحو القراءة والحث على الاستزادة منها، كما أن توالي هذه الاحتفائية الثقافية السنوية قد تجاوز رفوف الناشرين، وحلّق في عوالم الطرح الثقافي في كل موضوعات التداول الممكنة، فكانت الندوات والمحاضرات واللقاءات المباشرة والأمسيات الأدبية الثقافية ودون النظر إلى عمق المطروح وإشراق المعرفة من خلاله وتقويمه فإنّ من الملاحظ اختفاء الطروحات التي تحيط بالكتاب وصناعته ونشره، ومنصات عرضه، ويتوارى كل ما يجب أن يُبحث بعيون المبصرين لتطوير معارض الكتاب تنظيماً وإثراءً، وتحفيز التأليف المحلي.
والأهم من ذلك كله أن تحصد الثقافة في بلادنا مكتسبات ومنحاً مجزية من معارض الكتاب المتوالية في كل عام تسهم في تحقيق تنمية ثقافية مشهودة ومستدامة، ومن شموس ذلك أن يكون معرض الكتاب المنعقد سنوياً رحماً ودوداً لولادة حقيقية للمكتبات في الأحياء التي يجب أن ترُسى لها القواعد من جهات الاختصاص الرسمية ويعين عليها المثقفون من أبناء الحي، ويستقطب لها المتطوعون في مجال الثقافة وصناعة الكتاب؛ وإن لم تتوفر المقرات المستوعبة لذلك النشاط الثقافي فلعلنا نعود كما كان أسلافنا إلى «دكاكين الوراقين التي كانت تحتضن المعرفة العليا آنذاك، وتفتح منها نوافذ ثقافة الكتاب والقراءة وتبادلها من قبل سكان الحي، وأن يُستثمر واقع التواصل الرقمي في تحقيق التبادل المعرفي من بوابة مكتبة الحي، ويكون دعم تلك المكتبات الصغيرة النامية من قبل دور النشر المحلية سنوياً خلال تظاهرة معرض الكتاب وأن يُحتَفَى بذلك العطاء المجزي الذي يحقق الشراكة المجتمعية الثقافية بمفهومها الشامل الذي ترقبه المجتمعات الواعية.
وثقتنا في دور النشر المحلية ستكون وافرة بإذن الله؛ وكذلك منصات صناعة الكتاب الأخرى في معرض الكتاب مثل دور النشر الخارجية عندما يكون لديها نظام مرن، ومحفز تسهم في صياغته الجهة المشرفة على معرض الكتاب [هيئة الأدب والنشر والترجمة] لتتمكن تلك الدور من المشاركة في دعم مكتبات الأحياء؛ فإذا ما استولدت وزارة الثقافة كجهة اختصاص عشر مكتبات للأحياء سنوياً في كل مدينة من بلادنا فسوف يتحقق اكتمال العقد الذهبي من مكتبات الأحياء مع إتمام الرؤية الفريدة المحفزة لبلادنا 2030، ونتمنى أن يشرق واقع الحي الثقافي بأضواء كاشفة في كل المعارف والعلوم وقوالبها المختلفة مع تأصيلها وتعميق منابعها في تلك المؤسسات الثقافية الصغيرة (مكتبات الحي) في الأحياء لتصنع القارئ الذي ينمو وهو شغوف بتلك الكواشف القرائية المفيدة، ولعل ذلك من قبيل السنن الحسنة التي كان يجب أن تضطلع بها الجهة المعنية بالثقافة في بلادنا؛ فعادة ما نسمع عن الأخبار الخجولة عن واقع الكتاب في المحيط الأُسَري ويتبعه المحيط المجتمعي، ويؤلمنا النبض الخافت حول ذلك كله، وتسطيح واقعه دون حلول، ويجب أن لا ننسى أن حضور الكتاب اليوم والواقع القرائي أيضاً لا بد له من قيمة جديدة، فالوسائط التبادلية والتفاعلية أصبحت تزاحم الأسفار والطروس، فلابد أن يكون في مكتبات الأحياء حيّزٌ كبيرٌ من الكتب الرقمية لتوليد الاهتمام بالكتاب لدى الناشئة واعتباره محفزاً أولياً للتفكير والنمو المعرفي المتكامل، وتنمية الشغف القرائي لدى أفراد الأسرة، وتشجيع القراءة الناقدة لتكون ممارسة تلقائية تؤسس لبناء الرأي، وتوقد الذهن، وتكون حاضنة لكل الفكر القويم.
ونأمل أن يتواشج الحراك التأليفي بحراك نقدي مماثل يكون وسيطاً أميناً بين الناشر والمؤلف ومؤسسات المعرفة والمؤسسات الصحفية؛ وأن ترتب الندوات والملتقيات للمناقشات النقدية حول المؤلفات الوطنية سنوياً والتعريف بها والآراء حولها قبل أن تصطف تلك المؤلفات فوق رفوف معارض الكتاب؛ وأن يدعم ذلك إعلامياً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي؛ فقصور التلقي ومسامرة الكتب لا يتهمُ به القارئ وحده إنما يجتمع في ذلك قصور في النشر والنقد والتأليف؛ فلعل وزارة الثقافة بمنهجها الشمولي الجديد تصلح واقع أولئك ليكونوا جميعاً شركاء في القرار الذي يقنع المتلقي «القارئ» بالقيمة الإبداعية للكتاب الوطني، وفي منصات النقد كذلك تحصين لمعارض الكتاب من رداءة الإِنتاج، وهناك أيضاً مبادرات وطنية فردية وجماعية لصناعة القارئ المتفوق الناقد فليتها تكون صديقة حميمة لوزارة الثقافة؛ فلا بد من كتاب متفوق يحقق طموح القراءة المتفوقة وشغفها؛ فالكتاب وعاء مختلف لا يعود القارئ منه إلا بترياق مُختلف من المعرفة وفسحة من الأمل ونفحة من الضوء.