نوف بنت محمد بن فهد الثنيان
حين يزلزل الكاتب أو الشاعر الحقيقي فيض الشعور, يمسح رأس القريحة تودداً,لتجود عليه بحروف أو قوافٍ من عصارة الفكر ورقّة المشاعر وعذب الكلام, يستحضر من خلالها العاشق لحظات وجدانية بمشاعر أهلكها المخاض, تتجسّد بحنين لا ينضب, وآهات فَقد.. واحتياج عفيف..، فأتعب القلوب عرضة للوم أو عَتب.. تلك التي تعرّي ضعفها, وتتقرّب للحبيب بأوجاعها, ولا تتوقف عن الحُب والتفاني والتضحية والعطاء. ربما لأن أغلب العشّاق لا يلتقون إلاّ على أطراف الشجن, ولذلك مثل هؤلاء يُخلّدون حينما يدفعون ضريبة الخلود لوعات لا تنطفئ.. وتظل قصائدهم أو كتاباتهم وثائق حزن نقية يتلذّذ في تناقلها رواة التاريخ..
ما أجمل أن نؤرخ أوجاعنا ونشيع فتنة الشعر أو الكلمة بكل شفافية البوح وبكل الشجن والانكسار الذي يعتريها, وبمعزلٍ عن أثرها البالغ، نترك السحابة تمطر كما تشاء، بهذه الوصفة السحرية يمكن مخاطبة روح المتلقي بالمشاعرالفيّاضة والبلوغ بها إلى السُمّو ليستقبلها بقلبٍ كبير واحتواء غزير، لأنها ببساطة شديدة ظهرت له صادقة جلية.
تلوّح لنا ذاكرة التاريخ المنصفة أمثلة لشعراء من فئة الصدق أفصحوا عن انفطارات القلب المؤثرة، أنشدها بعض عظماء الشعر المعاصرين..
قال الشاعر الأمير خالد الفيصل (بنبرة الاستجداء):
(ارحمي قلبٍ تجاريبه قست
في زمانٍ ماعرف يومٍ حنون)
أما الشاعر المبدع محمد الدحيمي -رحمه الله- فقال بملء وجدانه:
(شفني من سنين لو قصدك.. تغرّقني
غريق عاليابسة.. قد يبست عروقه)
وأقول أنا وقدوتي هؤلاء الأساتذة وعلى خطى نهجهم وتواضعهم..
(سما.. وغيثِك لو هَمَا.. يبقى رذاذه من.. وِفَاك
طوّل غيابك.. يا مطر.. قلبي.. وضاقتْ بي سما)
لذلك.. يستفز أحاسيسنا الكتابات أو الشِعر الذي يمارس التشويش على خيالنا والتنغيص على ذائقتنا وتحديداً من أكثر الكتابات أو القصائد نشازاً واستفزازاً، تلك التي نقف فيها لنشهد جنون عظمة الكاتب أو الشاعر ومبالغته المفرطة في وهم الكمال وتقدير الذات وتهميش الآخر، ليقترب منها بأكثر وضوحاً، فيشغل (أمّة محمد) بخُزَعْبِلات ما بينه وبينه، فتارة ينظر من سماءه جازماً إن الحبيبة ستعرج عليه من أرضها، وتارة يتباهى في بروجه التي شيّدها لنفسه فيطلب بثقة المتغطرس ملازمتها أحدى شرفاته كغيمة تظلّله، وتارة أخرى يتذمر من المِرآة التي تصّر على أن تلتصق به ليبقى في حيرة سرّ تشبثها به!، ويستطرد في نوبة تساؤل، أيهما متلبساً بذنب الحب العظيم للآخر.. بعيدًا عن أعين القصيدة!
هو لا يكتب للحبيبة إلاّ لأنه يدلّل حاله بها، ولاّ يتطرق للشعر إلاّ بإحصاء انتصاراته على الشعراء ومن كان لهم شرف التعلّم من أبجديته!!, لا شيء يقنعه بزحف أمواجه إلى الشاطئ، فهو الريح والبحر والسفينة والقبطان!.. تحملهم على مضض، مياه تشوبها زَبَد الغرور وملوحة التعجرف والعنجهية!
وهلّم جراً حين نتجول بين هياج حروفه، وبراكين سطوره حتى يُغرقنا معه بشبر امتعاض.!!
لا يعزّز عظمتة إلاّ المنتصرون به علينا..!!
يغفل هؤلاء المطبّلون رأي المتخِّصصين في علم النفس قولهم :- (داء العظمة تعبير عن « شلل عقلي تام « يكون مصحوباً بهذيان فكري في شأن السلطة والرغبة والثراء والجاه والقدرة البدنية، تشكّل في مجموعها جوهر الهذيان النفسي, فالمصاب يظن قطعاً أن العالم سيتكيف على أهوائه ورغباته، بينما المعافى نفسياً يحرص على تكييف رغباته وفقاً للعالم ، ولِمَا هو متاح وممكن).
حقاً.. لا نعرف كيف يثق أنه يبلغ السماء ويجيء مكتملاً حينما يكون الكمال لله وحده, فيتناقص أكثر بتقديس المتعاظمين به وسعيهم في إغراق المنابر الإعلامية بفنتازيا تجربته الشعرية الفذّة! وفي وقت لا تتداوله الذاكرة ولا يعترف به التاريخ، ربما لا يعنيهم ما يقحموننا بما ليس لنا فيه، واجهاض مُتعتنا وما نشعر به من احتقان عندما نحاول أن نختلس من غبار الوقت لحظات هدوء وسكينة، أوربما يجب أن نُدرك وبكل حزن ودون أن نشعر بأننا قد وصلنا زمناً لا يقيم وزنًا للرومانتيكيين البسطاء أمثالنا..
نقول لهؤلاء الشعراء/ الكتّاب.. أينما تكونوا يدرككم المقت ما دمتم في بروجٍ مشيّدة..!
وآخر قولنا أن الحمد لله رب العالمين الذي عافانا مما ابتلاكم به وفضّلنا على كثير من الخلق تفضيلاً.