د.عبدالإله ساعاتي
أخفق المؤرِّخون على مدى العقود الماضية في إدراك حقيقة أن المملكة العربية السعودية هي «دولة مؤسسات» منذ بدايات تأسيسها في مكة المكرمة، حيث تجسدت الدولة المؤسساتية في السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.. التشريعية ممثلة في مجلس الشورى والسلطة التنفيذية ممثلةً في مجلس الوكلاء ثم مجلس الوزراء بينما السلطة القضائية ممثلةً في المحاكم الشرعية.. فلقد غابت للأسف عن المؤرخين حقيقة أن المملكة العربية السعودية هي دولة مؤسسات منذ البدايات الأولى لتأسيسها.
الأبعاد الشرعية للشورى
وأود أن أقصر حديثي هنا على مجلس الشورى.. فإذا استقرأنا جذور التجربة الشورية السعودية نجد أن لها أبعاداً إسلامية دينية عميقة، فديننا الإسلامي الخالد دعا إلى انتهاج الشورى في تسيير أمور الأمة المسلمة، يقول سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } (159) سورة آل عمران.
ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (38) سورة الشورى. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحداً أكثر مشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
ويقول الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: «ما تشاور قوم قط إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم، أو كما قال».
مجلس الشورى.. البدايات الأولى
وتعود جذور الشورى في المملكة العربية السعودية إلى عهد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - طيّب الله ثراه - حيث قال في بلاغه التاريخي الذي ألقاه في مكة المكرمة في الثاني عشر من شهر جمادى الأولى من عام 1343هـ (سنجعل الأمر في هذه الأرض المقدسة بعد هذا شورى).
وفي المحرم من عام 1346هـ أصدر الملك عبدالعزيز - رحمه الله - نظام مجلس الشورى، وكان مجلس الشورى في عهد الملك عبدالعزيز يمارس وظائف حيوية ويحظى باهتمام الملك -رحمه الله - حيث أسهم المجلس في وضع الأنظمة في تلك المرحلة التأسيسية المهمة.. وكان مقره ومقر مجلس الوزراء وكافة الوزارات في مكة المكرمة.
نقلة حضارية تاريخية
ولكن دور المجلس تضاءل ثم تعطل وتولى مجلس الوزراء دور مجلس الشورى.. حتى شهد يوم السابع والعشرين من شهر شعبان 1412هـ نقلة حضارية تاريخية في مسيرة بلادنا الغالية تمثّلت في صدور الأنظمة الثلاثة: النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق.
وكانت سمات الرؤية فيها بما يتفق وخصائص المجتمع السعودي التي تميز تلك الأنظمة فضلاً عن الدقة في صياغة موادها.
وتعد تلك الأنظمة مدخلاً لحقبة مؤسساتية دستورية متجددة في وقت جسدت فيه مواكبة فاعلة للمتغيرات العالمية والمحلية واستجابة واعية لتطلعات الأمة ومزيد من الالتحام بين القيادة والشعب في هذا الوطن المعطاء.
ورغم أن النهج والنسق والمفاهيم تتماثل بين النظام الصادر في عام 1346هـ في عهد الملك عبدالعزيز والنظام الصادر في 1412هـ في عهد الملك فهد - رحمهما الله - إلا أن الاختلاف فرضته الظروف والمتغيرات المستجدة والفارق الزمني الذي يفصل بين النظامين. فالنظام الجديد أكثر دقة وشمولية وتقنينا، ويظل من الإنجازات الرائدة لقيادتنا الرشيدة.
آن أوان التغيير!
ولا ريب أن مجلس الشورى اليوم يضطلع بدور حيوي مهم في مسيرة النماء والبناء في بلادنا العزيزة بقيادة معالي رئيس المجلس ونائبه ومساعدته وأمينه العام وكافة أعضائه.. والمجلس في الحقيقة مدرسة بمن يضم من كفاءات عالية من التكنوقراط فكراً وعلماً وخبرة وتنوعاً.. ولقد تعلمت من زملائي الأعزاء في الدورة السابقة الكثير في مختلف المجالات من خلال الطروحات والمداخلات والأفكار النوعية المتميزة.
ولكن الدور الحيوي للمجلس لا يعني وصول عطاءات المجلس إلى حد الكمال، فما زال المجال واسعاً للمزيد من التطوير وما زال الأمل قائماً للمزيد من التفعيل وتظل الحاجة موجودة لتقييم تجربة الشورى بصفة عامة والمجلس ومهامه ونشاطاته وثقافة العمل فيه بصفة خاصة.. أملاً في تعزيز الإيجابيات وتجاوز السلبيات وتطوير الاستجابة اللازمة لعوامل التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الكبير الذي تشهده بلادنا - بإذن الله تعالى. وبعيداً عن الآراء الانطباعية غير المنصفة لدور المجلس وأعضائه وبعيداً عن الفهم غير الصحيح للمجلس كمؤسسة شورية وليست تنفيذية.
أنظار العالم على المملكة
وأرى - بالمناسبة- أن سمو الأمير القائد الاستثنائي محمد بن سلمان أدخلنا من خلال الرؤية الخلاقة ومنجزاتها الرائدة إلى الأروقة العالمية.. حيث أصبحت المملكة من أبرز أقوى عشرين دولة في العالم.. وأصبحت أنظار العالم على المملكة كلاعب عالمي إستراتيجي ومحوري في جميع المجالات.. ولذلك فإنه ينبغي أن يكون مجلس الشورى على مستوى عالمي متقدم يضارع مستويات المؤسسات المماثلة في أرقى دول العالم في أدائها ومنجزاتها وآليات عملها وتطبيقاتها التقنية المتطورة.. فعلى سبيل المثال في الوقت الذي نعيش فيه عصر تحول رقمي مبهر ارتفعت معه مكانة المملكة في سماء التقنية على مستوى العالم.. لا يزال المجلس يغرق في خضم كم هائل من الورق تغمر مكاتب الأعضاء يومياً.. وأقترح أن يرفع المجلس شعار «مجلس بلا ورق» ليتماشى مع معطيات التحول الرقمي المبهر الذي تعيشه بلادنا.
الغياب الإعلامي للمجلس!
- وأما البعد الإعلامي للمجلس فإن خطأ فادحاً أن يحصر المجلس أخباره على صحيفة واحدة! وأن يكون حضوره في وسائل التواصل الاجتماعي الحيوية المهمة ضعيفاً إلى درجة أن أعضاء المجلس أنفسهم لا يتابعونها! فالإعلام لا ريب عامل مهم لبناء جسور المتابعة المجتمعية.. وربما كان الغياب الإعلامي المؤثر سبباً للصورة الغائبة الإيجابية عن أعمال المجلس.
إعلام المجلس أقترح أن يتبنى مفاهيم «الإعلام البرلماني» الذي أصبح اليوم إعلاماً متخصصاً له خصائص متفردة وسمات متميزة وصياغة نوعية للمحتوى الإعلامي.. وهو ما يحتاج إليه المجلس.. كما أن المجلس بحاجة ماسة إلى إستراتيجية إعلامية شاملة مبنية على أسس علمية.. وقائمة على مؤشرات لقياس الأداء حتى تكون الإستراتيجية عملية وقابلة للتناغم مع الرؤية 2030 .
ضرورة الانفتاح على المجتمع!
والحقيقة هي أن المجلس بحاجة ماسة إلى الانفتاح على المجتمع.. وإلى تبني مفهوم «مؤسسة بلا أسوار «.. إلى التواصل والتفاعل مع الجامعات وطلابها وأساتذتها.. ومع مختلف قطاعات المجتمع.. وإلى الحرص على استطلاع آراء المجتمع والتفاعل مع احتياجاته وتطلعاته.. وإلى إشراك المواطن في فعالياته بصورة أو أخرى.. والتعامل معه كشريك إستراتيجي.. وفتح قنوات لإيصال صوت المواطن للمجلس.. واقترح أن ينشئ المجلس مركزاً لاستطلاع الآراء.. بهدف الوقوف على تطلعات المواطنين وتلمس آرائهم والوقوف على احتياجاتهم، وذلك انسجاماً مع توجهات القيادة الرشيدة، وتوجيهاتها المستمرة.
الكثيرون لا يعرفون دور المجلس
فعلينا أن نسلم أن هناك قطاعاً كبيراً من المجتمع لا يعرفون الدور المهم الذي يضطلع به المجتمع تشريعياً ورقابياً.. وهو ما يؤكد الحاجة الملحة للانفتاح على المجتمع وتوسيع دائرة التواصل.. وتفعيل العملية الاتصالية.. فالكثيرون لا يعلمون أن جميع الجهات الحكومية ترفع تقارير سنوية إلى الملك.. الذي يحيلها - حفظه الله - إلى مجلس الشورى الذي يتولى دراستها من خلال لجانه المتخصصة ثم يرفع توصياته حيالها إلى الملك.. هذا الدور الحيوي المهم للمجلس لا يعلم عنه قطاع كبير في المجتمع، مع أنه يؤكد حرص القيادة واهتمامها بأن تكون إنجازات المجلس حاضرة في ذهن المواطن من خلال تفعيل تواصل المجلس معه.
وختاماً اسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع ويحفظ علينا قيادتنا وبلادنا ومواطنينا بكل خير وتقدم.