أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: العقل العروضي يعني هبة الإمام (الخليل) إلى ضبط الألحان التي يتغنى بها العرب؛ ثم يغنون بها؛ لتكون دليلاً للناشئ، أو الكهل اللذين لا يملكان رهافة حس الأديب شاعراً، أو متلقياً؛ وأعني خصوصاً العربي الذي يبدع الشعر أو يتلقاه بداهةً حالة كونه يغني بشعره أو شعر غيره، ثم ألقى الشعر غير مغن به: فإنه قد لا يقيم وزنه؛ لهذا نشأ العقل العروضي الخليلي؛ ليدرك غير الأديب، وليدرك غير الشاعر غنائية الشعر؛ وقد يفتح عليه؛ فيكون شاعراً.. أما تعلمون أن الصحابي الجليل (عبدالله بن عمر بن الخطاب) رضي الله عنهما عربي قح؛ فلما سمع من (النابغة الجعدي) قوله:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنرجو بعد ذلك مظهرا
قال ابن عمر رضي الله عنهما: (أما قلت إن شاء الله)؛ فقال (النابغة): (إن ذلك يفسد الشعر يا أبا عبدالرحمن)؛ يعني كسر الشعر، وتحويله إلى نثر؛ فقال ابن عمر (لا خير في شعر تفسده لا إله إلا الله).
قال أبو عبدالرحمن: (العقل العروضي الخليلي): إنما هو لحصر الغناء العربي لا غيره؛ لأن غناء غير العرب أشمل من غناء العرب؛ ولأن موسيقى الوجود أشمل وأوسع من غناء البشر؛ ولهذا يبقى الشعر البشري قابلاً التوسع والنمو؛ لأن مصادر الشعر الغنائـي واسعة متجددة غير نهائية؛ فالأمم من العرب والسودان والهند.. إلخ.. إلخ: متلاقحة في أغانيها؛ فيكون الغناء عند عربي وهندي مثلاً منتج إيقاع غناء ثالث؛ وهكذا، وهكذا؛ الغناء البشري يمتد من أصوات الطيور والإبل والجمادات كالأوزان التي تستمد امتدادها من تدحرج الحصا من شاهق؛ فيحدث من ذلك إيقاع ما.. أو لم تقل (الست بنت إبراهيم) في ترجيعها أغنيتها (سلو قلبي) من شعر أحمد شوقي مقام (راست)؛ ومن ضمن القصيدة هذان البيتان:
ولي بين الضلوع دم ولحم
هما الواهي الذي ثكل الشبابا
تسرب في الدموع فقلت ولى
وصفق في القلوب فقلت تابا
فإذا أصغيت إلى تفاعل (الست بنت إبراهيم) مع كلمة (الدموع) مع طول نفسها: رأيتها ترسم تألقاً بين العلو والهبوط، مع التموج بين اليمين والشمال؛ فتسمع تصفيقاً حلاباً لا تدري أهو تصفيقة قلب، أو تصفيقةً من السماء، أو تصفيق حجرتين من الحصي اعتركتا؛ فالأغنية إذن تصويرية قل من يفطن لها إلا من كان مثل (أبي عبدالرحمن الظاهري)؛ فإنه مرهف الحس جداً!!.. ولقد كنت أستمع إلى (تسرب في الدموع) من تفاعل (الست بنت إبراهيم): فأظن أن كل بحور الخبب وما قبله ترقص من ورائي؛ ولاسيما أنني أسير على أقدامي مستدفأً بنعال تصطفق أواخرها على العرقوب.. وبهذا تسقط دعوى أن (العروض الخليلية) علم قد احترق!!.. قرأت ذلك على أستاذي الشيخ (صادق صديق) في المعهد العلمي بشقراء، وسمعت ذلك من شيخي (عبدالفتاح أبو غدة) رحمه الله تعالى عندما كنت أدرس بالرياض بكلية الآداب بجامعة الملك سعود للبنات؛ إذ كنت أذكر لهم قول شيخي أبو غدة رحمه الله تعالى: (إن من العلوم ما نضج واحترق)، وسمعت منه مثل ذلك عن الرسم الإملائي إن لم تخني الذاكرة؛ ومعنى كل ذلك: أن العلم المحترق: قد استهلكت جزئياته وتفاصيله، وأصبح كاملاً لا يحتاج إلى إضافة أو بيان!!.
قال أبو عبدالرحمن: معنى هذا أن علم العروض أخرجه (الخليل بن أحمد) رحمه الله تعالى جامعاً مانعاً.. وقبل تحقيق ذلك أحب أن أذكر أن للخليل بن أحمد من المؤلفات: كتاب (النغم)، وكتاب (الإيقاع)، وكتاب (العروض).. ذكر ذلك (ابن النديم) وغيره.. وجاء في كتاب (الفهرست) تحقيق رضا المازندراني/دار المسيرة/الطبعة الثالثة عام 1988م ص49: «وللخليل من الكتب كتاب النغم [ثم ذكر كتباً بعده، ثم قال]: وكتاب الإيقاع؛ فهذا دليل على أنهما كتابان لا كتاب واحد؛ فمن الكتابين الأولين، ومن ممارسته ألحان العرب من شعرهم كان إلمامه [الرفع على أن كان تامة، ويأتي في معنى التامة مفرداتها؛ وهي ههنا بمعنى (حصل، أو وجد، أو سهل) وما في هذا المعنى من الأفعال التي تقتضي فاعلاً ولا تقتضي اسماً وخبراً] بألحان العرب، وكان كتابه الثالث عن العروض هو القالب الشكلي الوزني لتلك الألحان، وهو المكمل المنظم عملية التنعيم عند العرب وأشباهها مثل: نعم لا/ نعم لا لا.
قال أبو عبدالرحمن: أما الرسم الإملائي فإنه يحترق، لا بد من المحافظة على علامات الترقيم؛ وهي وضع العلامة بعد العنوان مع جواز ذكر أكثر من علامة].. فقد قال الدكتور (عبدالعزيز عتيق): «تجدر الإشارة إلى أن هناك فارقاً ملحوظاً بين علم العروض وعلوم العربية الأخرى من حيث النشأة.. [قال أبوعبدالرحمن: (النشأة) ههنا مقيدة بما سيذكره من النضج ابتداءً، ولا يعني عناصر أخرى مشابهة في النشأة؛ وهذا يصدق على هيكل الوزن ذي التقطيع البصري، وعلى حصر الألحان العربية في وقت الخليل؛ لأن تلك الأوزان هي قوالبها].
قال أبو عبدالرحمن: علوم النحو والصرف والبلاغة مثلاً قد استحدثت، ثم أخذت تنمو جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر حتى بلغت ذروة اكتمالها، وأما علم العروض فقد أخرجه (الخليل) علماً يكاد يكون متكاملاً؛ ولعل ذلك هو السر في أن من أتى بعد (الخليل) من العروضيين لم يستطيعوا أن يزيدوا على عروضه أي زيادة تذكر، أو تمس الجوهر».. انظر كتابه (علم العروض والقافية) ص10/ الطبعة الثانية، عن كتاب (دراسات في الفولكور الأردني) لأبو الرب ص33.
قال أبو عبدالرحمن: أعني بتاريخية العروض: عروض (الخليل بن أحمد) رحمه الله تعالى بين التقطيع البصري، وضوابط اللحن الغنائي؛ فأوزان (الخليل بن أحمد) محصورة تاريخياً بما هو من أوزان العرب؛ وذلك عندما نهض إلى وضع علم العروض.
قال أبو عبدالرحمن: في كتابي: (مبادئ في نظرية الشعر والجمال)، وفي كتابي (أوزان الشعر العامي): بينت أن واقع الشعر العربي الفصيح بين الأميين كواقع الشعر العامي بالأمس القريب بين الأميين أيضاً تماماً تماماً.. وأوجز الرأي ها هنا بأن ميزان العرب الغناء، وأن (الخليل بن أحمد) اشتق علماً بصرياً من علم سمعي؛ فكان يعرف ألحان العرب التي يغنون بها ويحصيها؛ فأخذ منها صيغاً تضبط قالب وزن اللحن، ولا تضبط أنغامه ثقلاً وخفةً، وطولاً وقصراً، مع نغمات التأثر (النبر).. وكانت الزحافات والعلل عنده تعني تحقيق النطق العربي وزناً، وتعني إغفال الضرورة الغنائية بمد غير ممدود، وتحريك ساكن، وتسكين متحرك.. وقد ضاع كتاب الخليل، وجرى الناس على علمه البصري، وهو التقطيع؛ فلما غابت عن الذاكرة ألحان العرب؛ لفقدان (النوتة): تحول الشعر في الأغلب إلى نظم غير مموسق لا يضبطه إلا قالب الوزن؛ وإنما تجلت الموسيقى في شعر المحدثين؛ لأنهم ينظمونه للغناء به على ألحان استجدت عندهم.. والملحن والموسيقار اليوم يلاقيان عنتاً في تحويل بعض كلمات عيون الشعر من كلمة موزونة غير موسيقية إلى كلمة موزونة تحقق أنغام اللحن الجديد، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -