د. عبدالحق عزوزي
أضحى البحر المتوسط مقبرة للأطفال بعد ازدياد عدد المفقود منهم وهم يهاجرون في قوارب صغيرة من جنوب المتوسط إلى شماله؛ كما ازداد عدد المهاجرين المفقودين أومن قضوا نحبهم في البحر الأبيض المتوسط ثلاث مرات سنة 2023 مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2022 الواقعة بين حزيران/يونيو وآب/أغسطس، وذلك حسب ما أعلنت عنه منذ أيام منظمة الأمم المتحدة للطفولة في مؤتمر صحافي في روما. وبلغ عدد من قضوا غرقا هذا العام 990 شخصاً من بينهم أطفال؛ وقالت المنظمة: إنه قد توفي ما لا يقل عن 289 طفلاً خلال عمليات عبور البحر هذه منذ بداية العام الجاري.
وأوضحت اليونيسف أن 11600 «قاصر غير مصحوبين» حاولوا التوجه إلى إيطاليا بين كانون الثاني/يناير ومنتصف أيلول/سبتمبر 2023 في مراكب صغيرة أي بزيادة بنسبة 60 بالمائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
إنها للأسف الشديد حصيلة مأساوية للأطفال الذين يقضون نحبهم وهم يفرون من مناطق الفقر والحروب وبسبب نظام هجرة غير متوازن... المكان الأصلي لهؤلاء الأطفال هو المدرسة لتعلم القراءة والكتابة؛ ولكن للأسف تجدهم يأخذون قوارب الموت بحثاً عن عيش آمن في أوروبا؛ خاصة وأننا نعلم أنه في مناطق متعددة في إفريقيا يتم تجنيدهم على يد القوات المسلحة أوالجماعات المسلحة ويتم فصلهم عن عائلاتهم ويأخذون عنوة من بيوتاتهم ويتعرضون في بعض الأحيان للقتل أو التشويه أوالاعتداء الجنسي ولأشكال استغلالية أخرى.
وكل الأرقام التي تعطيها المنظمات الإنسانية الدولية والجهات الرسمية في أوروبا توحي بارتفاع مأساوي في عدد الوفيات، بمعنى أن المياه المتوسطية تشكل مقبرة حقيقية للأطفال وللمهاجرين القادمين من إفريقيا والدول العربية والشرق الأوسط...
كما أثارت صور وصول 8500 شخص إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية الصغيرة خلال ثلاثة أيام الأسبوع الماضي، أي أكثر من إجمالي عدد سكانها، عاصفة سياسية في إيطاليا بل وفي أوروبا... ولكن مما يزيد الطين بلة، أن هاته الدول غير متفقة على وضع سياسة موحدة في مجال الهجرة، رغم ما أثارته موجات الهجرة الأخيرة في اتجاه لامبيدوسا من مناقشات في بروكسيل، خاصة وأن ميثاق الهجرة لا زال يشكل موضوع خلاف منذ أن قدّمته المفوضية الأوروبية في العام 2020.
ولكن مع ذلك، فكل دولة أوروبية معنية بالهجرة تقوم بوضع حزمة من القوانين الداخلية لمنع وصول المهاجرين إلى أوروبا أو لطردهم من هناك، فإيطاليا تبنت قانوناً مطلع شباط/فبراير الماضي يقيد عمل سفن الإنقاذ الإنسانية بمساعدة قوارب المهاجرين المتهالكة في المتوسط؛ وبدأت دول الاتحاد تستعمل طائرات مسيّرة وأجهزة مراقبة تحت-مائية ورادارات ثلاثية الأبعاد وآلات استشعار لرفع مستوى الأمن على حدودها الخارجية، ولكن هذا كله يجعل المناطق الحدودية أكثر خطورة على الأشخاص؛ كما أنه يفاقم العنف ويمنح حرس الحدود سلطة كبيرة....
كما أن العديد من الدول الأوروبية تحاول تطوير الذكاء الاصطناعي في عمليات القبض على المهاجرين السريين وعسكرة الحدود؛ غير أن الخبراء الدوليين يحذرون من أن هذا المنحى يطرح مخاطر مخالفة القوانين الدولية الإنسانية مثل انتهاك الحياة الخاصة، وما يمكن أن ينجم عنه الخلل في الخوارزميات وغيرها، إضافة إلى «انعدام الوضوح على صعيد المسؤولية»؛ وهو قادر أيضاً على أن يزيد بشكل هائل المخاطر حيال الأمن والسلامة، وينتهك الحقوق المدنية، ويزرع الريبة ويفقد الثقة عند جمهور الناس ناهيك عن نشر الأخبار المضللة التي قد تحدث كل أنواع الفتن.
ثم إن ما يجب القيام به هو أن تتبنى الدول الغربية المتواجدة في شمال المتوسط ميكانزمات تساهم في أنسنة الهجرة وذلك من خلال تسهيل عمليات نقل المعلومات واستيعاب المهاجرين وتبادل الخبرات، والحد من العوامل السلبية التي تمنع المواطنين من العيش الكريم في بلدانهم الأصلية، وتهيئة الظروف التي تمكن جميع المهاجرين من المساهمة في إثراء المجتمعات من خلال قدراتهم البشرية والاقتصادية والاجتماعية، ودمجهم لدفع التنمية على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية.