د.محمد بن عبدالرحمن البشر
فُجع العالم العربي والإسلامي بفاجعتين، تختلفان في الأسباب، وتتماثلان في النتائج، زلزال مراكش المغربية، وفيضان درنة الليبية، وليس بين الفاجعتين سوى بضعة أيام، وكفى بالقرآن واعظاً ومثبتاً، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وقال تعالى مخاطباً نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}، ولا بد للمرء أن يقتدي برسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- ويصبر على الابتلاء، وكفى بالقرآن واعظاً، والحمد لله على كل حال.
في بداية الشهر الماضي تكون إعصار دانيال في حوض البحر الأبيض المتوسط، وضرب اليونان فأفنى عدداً من البشر، واقتلع الشجر، ثم زار تركيا، وفعل بها ما فعل في اليونان، واتجه إلى سواحل جنوب أوروبا، ثم غيَّر مساره ورسمه، واتجه إلى مدينة درنة الليبية، الآمنة ذات الجذور الزكية، وكانت سرعة ذلك الإعصار نحو سبعين كيلاً في الساعة، وحذَّرت الأرصاد المحلية والعالمية من قرب وصوله إلى المدينة العامرة، لكن لم يدر بخلد أحد شدة بأسه، وقوة فتكه ودرسه، فظل الناس قعوداً في بيوتهم، وأخذت الأمطار بالهطول من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثامنة صباح اليوم التالي، وكانت كمياتها غزيرة بدرجة ليس لها سابقة في المنطقة، وربما أن الجبل الأخضر قد ساعد على استحلاب ما بها من ماء كثيف، فحطت حمولتها كاملة على الجبل وما حوله، فأخذ الماء في التدفق السريع عبر وادي درنة التي تتربع على جانبيه الوادي، وما كان لسدين عتيقين لم ينالا نصيبهما من الصيانة الكافية أن يقفا في وجه ذلك الطوفان وهما اللذان لم ينالا نصيبهما من الصيانة الكافية، فانهار السد الأول، واندفع ماؤه مع ماء الفيضان إلى السد الثاني، الذي لم يستطع المقاومة.
كانت المدينة قد بنيت على جانبي الوادي بالأسلوب المعتاد، الذي لم يأخذ في الحسبان وقوع حادث كهذا، فاقتلع ماء دانيال ما وجد أمامه من حجر وشجر وبشر، والمباني العالية وغير العالية، وأخذ بالهدير، وهو يحمل رجالا ونساء وأطفالا أعزاء كراما، في منظر تقشعر منه الأبدان، وتذوب له القلوب والوجدان، كانت فاجعة، وأيما فاجعة، فقد فيها الأحباب أحبابهم، والأخلاء أخلاءهم، وذهبت آلاف من الأنفس البشرية الزكية، وتشتت الشمل، لمن بقي على قيد الحياة، لكن لابد من تجاوز المحن وإن عظمت، فالبكاء على الأطلال، لن يعيد الحال، والصبر ولا غير الصبر سلاحاً لتخفيف الألم، وتضمين الجرح من السقم، يقول الشاعر الوزير ابن عبدون:
الدَهرُ يُفجِعُ بَعدَ العَينِ بِالأَثَرِ
فَما البُكاءُ عَلى الأَشباحِ وَالصُوَرِ
ومن الجدير بالذكر أن ليبيا جزء من الشمال الأفريقي الذي اتخذ طابعه الخاص المختلف عن إفريقيا جنوب الصحراء، بعد انحسار الجليد التدريجي عن الكرة الأرضية، الذي بدأ قبل اثنين وعشرين ألف سنة، وقبل نحو عشرة آلاف سنة تقريباً أخذت ملامح التصحّر تظهر في الشرق الأوسط، مما دفع بالسوريين إلى تعلّم الزراعة، فكان لهم ما أرادوا، حيث تعلموا زراعة القمح والشعير، وامتد التصحّر ليشمل القارة الإفريقية، فتكونت الصحراء الكبرى قبل ستة آلاف عام، فانفصل الشمال الإفريقي عن جنوب الصحراء، ومن ذلك ليبيا، وتمازجها عرقياً وثقافياً مع جنوب البحر المتوسط والشرق الأوسط، فأصبح لهم بشرتهم وثقافتهم الخاصة، وفي الربع الأول من الألف الثاني قبل الميلاد أخذت أقوام تسمى شعوب البحر القادمة من جزر بحر إيجه، والبحر الكاريبي، بغزو الدول المتحضرة جداً وهي مصر التي يحكمها أسرة الرعامسة الفرعونية، كما أن الحيثيين الذين قدموا من هضبة الأناضول كانوا يحكمون سوريا المتحضِّرة أيضاً، قبل مجيء شعوب البحر، ومن شعوب البحر من ذهب إلى ليبيا واستوطنها، وقد سميت ليبيا بهذا الاسم ربما نسبة الى قبيلة الليبوا، الذين كان لهم مع قبيلة المشويش أثر في حضارة مصر، حيث حكموا الشمال المصري باسم الفراعنة عشرات السنين، كما قدمت قبائل عربية على فترات متعاقبة قبل الإسلام بكثير، وبعده، ومن تلك الهجرات بعد الإسلام ما حدث بعد تولي الاخيضريون جزءاً من وسط الجزيرة، ورحلة كثير من بني كلاب وبني عقيل وبني سليم وبني هلال، وغيرهم، إلى العلاقي بمصر، ونزح بعضهم أو نزحوا إلى ليبيا.
ومدينة درنة أسسها الأندلسيون عام ألف وأربعمائة وثلاثة وتسعين، بعد سقوط غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وقد استفادوا من مهارتهم في التجارة والزراعة، فنجحوا نجاحاً بيناً واختلطوا بأقوام من شعوب البحر، ومن الأعراب سكان الصحراء، وقبائل أولاد علي التي تعيش في مصر، كما أنها في تركيبتها الحالية تتكون من خليط من عائلات من مصراته، وبرقة، وطرابلس، وبنغازي، وسكانها الأصليين، وغيرهم.
ويبقى لنا أن ندعو لمن مات بالرحمة والمغفرة، ونحسبهم شهداء عند الله، كما ندعو الله أن يلهم من بقي على قيد الحياة الصبر والسلوان، وأن يعوّضهم خيراً مما فات، ويزرع في قلوبهم الطمأنينة، و{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.