سهام القحطاني
وراء كل خلاف فكري صوت أيديولوجي.
قبل الإسلام لم يكن العرب في حاجة إلى «تقعيد» لغتهم؛ بسبب الأحادية الجغرافية؛فطبيعة جغرافية بلاد العرب؛ ووجودهم في صحراء، وهي جغرافية غير جاذبة لأي عرق أجنبي ،وهذه الجغرافية الأحادية، حفظت أحادية العرق العربي، وبالتالي حفظت لغتهم من أي تشويه، وعلى إثر ذلك لم يكن العربي في حاجة إلى تقعيد لغته للمحافظة على استدامة هويتها، لذلك ظلت المحاكاة المنهج الأوحد لتعليم اللغة عبر الأجيال.
ومن نافلة القول هاهنا أن هذا «الجيتو اللغوي» الذي عاش داخله العرب كان لحكمة إلهية تجلت بعد ذلك.
لكن بعد الإسلام و دخول غير العرب إلى الإسلام، اختلف الأمر وأصبحت مسألة التقعيد للنحو مسألة مهمة لأمرين؛ لأنها مرتبطة بالقراءة الصحيحة للنص الديني وفهمه، والأمر الثاني للمحافظة على استدامة هوية اللغة،لا لكونها لغة هوية عرقية بل هوية عقيدة لا تمثل عرقا بل أمة خالدة.
ولذا كان على المسلمين العرب الأوائل مهمة تقعيد النحو وفق ضوابط تحقق صحة قراءة النص الديني وفهمه، وتوثيق تلك الضوابط كتابيا؛ لِتُصبح مرجعا متداولا عبر الأجيال، ومن هنا بدأت إرهاصات علم النحو على يد أبي الأسود الدؤلي.
وبما أن العرب لم يكن لديها أي مراجع سابقة في هذا المجال، سُنّت آلية لتقعيد اللغة، تعتمد على «السماع و القياس» وهذه الآلية كانت آلية مشتركة عند المدارس النحوية وعلى رأسها المدرسة البصرية ثم الكوفية، وإن اختلفت المدارس في مدى مساحة السماع والقياس.
فالمدرسة البصرية قيّدت السماع والقياس بمعايير المكان والثقة والبيئة والكثرة، ثم أدخلت على تلك المعايير ضوابط المنطق التي استمدتها من الترجمات التي شاعت في البصرة.
خلاف المدرسة الكوفية التي لم تقيد السماع والقياس بمعايير واضحة؛ فكثر الشذوذ والغريب فيما وضعوه من قواعد.
إضافة إلى عدم أصالة خلفية أوائل علماء هذا المذهب،الذين تخصصوا في الرواية والأخبار فنقلوا آلية الرواية التي تعتمد على الندرة والشيوع معا إلى النحو، فكان لهذا المنحى أثر في فوضى التوسع و القياس.
لكن ما ميّز المدرسة البصرية إن دورها لم ينته بانتهاء التوثيق والتبويب،بل الدور الحيوي لهذه المدرسة أنها وضعت أساسيات العلاقات التفسيرية بين الوظيفة والبنية والتي استفاد منها فيما بعد علم الكلام وظهر في ظلها حركة المعتزلة.
وبذلك استطاعت المدرسة البصرية أن تحول اللغة العربية من مجرد أصول للنطق الصحيح إلى نظام لغوي فكري،ولذلك سُمي نحاة البصرة أهل المنطق؛ لاعتمادهم على التحليل والعقل.
وبما أن المذهب البصري أسبق من الكوفي فلم يترك للكوفي خطوة ريادة، ومن هنا بدأت منافسة من تحت الرماد بين المذهبين، تجلت في المناظرات النحوية، تلك المناظرات التي صنعت جزءًا مهما من تاريخ المذهب الكوفي ،وقد أُلّف في هذا المجال مؤلفات منها: كتاب الإنصاف للأنباري، وكتاب التبيين للعُبكري.
وريادة المذهب البصري للنحو العربي تعود إلى ثلة من الأسباب منها:
الانتساب الإيديولوجي فقد نشأ المذهب البصري في ظل الدولة الأموية، والطبيعة الجغرافية للبصرة التي تُحاذي القبائل العربية، وطبيعتها الثقافية التي كانت جاذبة للمثقفين من خلال سوق المربد، الذي كان بمثابة مصدر للدرس اللغوي، إضافة إلى التعدد الفكري والثقافي للشعوب التي استوطنت البصرة وعُرفت بتفوقها الفكري قبل الإسلام.
أما المذهب الكوفي فكان له انتساب أيديولوجي مختلف لكونه ظهر في ظل الدولة العباسية، أضف إلى ذلك أن أصل الخلفية المعرفية لعلماء المذهب الكوفي أدبي وليس نحويا كما هو الحال عند علماء المذهب البصري.
كما أن الكوفة لم تحظَ بالعوامل الثقافية والجغرافية التي حظيت بها البصرة، رغم وجود سوق «الكناسة» لكن جاذبيته الثقافية للشعراء والأدباء كانت ضعيفة، ولا يمكن إغفال أهمية الفارق الزمني بين المذهبين الذي يمتد قرابة قرن من الزمان ،وهو فارق لم يجعل للمذهب الكوفي قدم سبق في هذا المقام.
لذا كانت المناظرات النحوية هي سبيل علماء المذهب الكوفي لصناعة ضجيج ظنوا أن يصنع لهم تاريخا يتساوى بالمذهب البصري.
إن غياب المنهج العقلي عند المذهب الكوفي سرّع من انطفاء تأثير هذا المذهب في الحياة الفكرية للمجتمع الإسلامي في ذلك الوقت؛ وخاصة أن طريقته لم يستظل بها أي مذهب فكري، كما كان الأمر بالنسبة للمذهب البصري، وغياب تأليفي حقيقي يحفظ لهذا المذهب أصول طريقته، كما أنه مذهب لم يتوفر لديه علماء أقوياء باستثناء الكسائي والفرّاء.
عند الوقوف على الخلاف بين المذهبين، لا يمكن أن نُغفل العنصر الأيديولوجي الذي أسس هذا الخلاف ،والذي بدأ منذ الفتنة الأولى بين المسلمين وانقسامهم إلى مذهبين خلافيين، قسّما معه النحو العربي.
ولكن يظل السؤال الذي يختبئ وراء أغلب الآراء التي تذهب إلى عدم قيمة المدرسة الكوفية على مستوى الإنجاز، هل تعرضت المدرسة الكوفية إلى مظلومية تاريخية بسبب انتسابها الإيديولوجي الذي حوّلها إلى أقليّة.؟