د.محمد الدبيسي
..ومثلما كانت تلك (الفُتُوح)..، محلَّ تأمُّل التلاميذ، فقد كانت أيضًا محطَّ ملاحظة العلماء والمؤرخين، الذين تناولوا الحركة العلمية في المسجد الشريف؛ ممَّن شدَّهُم مرأى ذلك الشيخ، الذي تلتفُّ حوله الكثرة الكاثرة من التلاميذ والمستمعين، واسترعى انتباههم جلال ذلك المشهد، من مشاهد العلم في المسجد النبوي. وكان الشيخ الطيب الأنصاري (وفيًّا لكلِّ من التمس عنده العلم)، كما يصف تلميذه الأثير، أبو بكر التُّمْبُكتي حلقة دروس شيخه تلك، ويتذكَّرُ أيامها، بقوله: « أكتبُ عن فترة قضيتها في رفقة شيخنا الطيب الأنصاري، المخلص لأبنائه، الوفيّ لكل من التمسَ عنده العلم، وقرَّبَ إليه الفوائد...أرجعُ بذاكرتي إلى ذلك العهد المليء بالدرس والتحصيل، أيام أن كنَّا نلتفُّ حوله في حلقة كبيرة، وكلنا يسبقُ الآخر في التقاط ما يلقيه علينا» (أبو بكر التُّمْبُكتي، شيخنا بين مدرسة العلوم الشرعية والمسجد النبوي، ص: ح).
ومن تلاميذ الطيب الأنصاري النُّجَباء: الشاعر عبيد مدني ، الذي عكف على تلقِّي العلم على يديه، وحظي بتوجيهه ورعايته علميًّا وأدبيًّا. وكان لِمُدَّةِ تعلُّمه التي دامت (أربع) سنوات؛ أثر بالغ في تكوينه اللغوي والأدبي، وفي تنمية ملَكَاته في كتابة الشعر والمقالة، يقول عبيد مدني:» ولمَّا لم يكن في المدينة مدرسة أو معهد غير المسجد النبوي الشريف، وغير ما كان العلماء يُلقونه من دروس في دُورِهم، أو في دُوُرِ بعض الطلبة، عكفتُ على الدراسة في المسجد الشريف» (إبراهيم المطوع، الشاعر المؤرخ عبيد مدني حياته وشعره، ص44، وقد حوى شيئًا من (المُذكِّرات الخاصَّة) لعبيد مدني) وكان الطيب الأنصاري، أكثر من تلقَّى عُبيدًا تعليمه لديهم، فدرس على يديه (شُذور الذهب في النَّحو، ولاميَّة الأفعال في الصَّرف، وشرح ابن عقيل، وشرح الأشموني في الصَّرف) .
وكان لهذه التَّنشئة العلمية المتينة، أثرها في بناء شخصية عبيد مدني العلمية والأدبية، وأسهمت في جودة إنتاجه الأدبي والعلمي، وكتابته المقالات الأدبية، والأبحاث التاريخية القيِّمة، التي كان ينشرها في مجلة المنهل. ناهيك عن تراثه التاريخي المخطوط، الذي لم يرى النُّور حتى الآن..؛ بالرغم من قيمته العلمية، والجهد الذي بذله عبيد مدني في إعداده وتحريره وتحقيقه، ومراجعته وتبويبه.
وفي معرض حديثه عن (أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر)، توقَّفَ محمد علي مغربي (ت1417هـ=1996م) كثيرًا -في كتابه الذي يحمل العنوان عينه- عند تلاميذ الطيب الأنصاري، من أولئك الأعلام الذين عُنيَ بسِيرهم، وأكَّدَ ما ذكره مَنْ قبلَه ومَنْ بعدَه، مِنْ كُتَّابِ التراجم والأعلام، والمهتمين بتاريخ العلم والأدب في المدينة المنورة، عن تلك الخصِّيصَة التي تميَّزَ بها الطيب الأنصاري، وهي: أثره البالغ المشهور والمشهود والمـُلاحَظ في تلاميذه، ونبوغهم في الفنون والعلوم التي سلكوا سبيلها، وبلوغهم مواقع رفيعة في الصَّنائع التي اشتغلوا بها، والمناصب التي تقلَّدُوها، على نحو ما ذكره المغربي عن عبيد مدني، بقوله: «انتقل للدراسة في المسجد النبوي الشريف، في عام (1337هـ)، وهو في الرابعة عشرة من العمر، في حلقة الشيخ محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري. الذي كان إلى جانب تضلُّعِه في علوم الدين، واسع الاطلاع على روائع الشعر والأدب، فإذا لمسَ من بعض طلابه الميل القوي إلى الأدب والبحث، أخذَ بيده لتنمية هذه الملكة فيه.
وقد حدَّثني المرحوم الشيخ ضياء الدين رجب، أنَّ الشيخ الأنصاري كان يطَّلِع على ما ينْظُمُه تلميذه ضياء الدين من الشعر، وكان دائم التوجيه له، يبصِّرُه بمواقع الخطأ كما يبصِّره بمواقع الإجادة، وقد لفت نظري أنَّ كثيرًا ممَّن عرفتُ أسماءهم، من أعلام الرجال في المدينة المنورة؛ كانوا من تلاميذ الشيخ الطيب الأنصاري» (محمد علي مغربي، أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري، 2/258-259).
وبعد هذه المرحلة من دراسة عبيد مدني، عند شيخه الطيب الأنصاري توَّجَ ذلك بنيله إجازة علمية من شيخه، في «جميع فنون العلم؛ نحوه ولغته وتوحيده وبيانه وصرفه، وأجزته الصِّحاح السبعة: الموطأ والبخاري ومسلمًا وأبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، إجازةً مطلقةً عامةً محررةً بشروطها المُعتبرة عند أهلها البررة».
وكذا كان شأن تلميذه عبد القدوس الأنصاري، الذي تلقَّى
دراسته العلمية المنظَّمة، على يد الطيب الأنصاري، وفصَّل في ذكر بداياتها ومراحلها، ومحتواها من العلوم والفنون، بقوله: «بدأتُ الدراسة وعمري خمس سنوات، في المسجد النبوي بفكِّ الحرف، على يد خالي وشيخنا العلَّامة المربِّي محمد الطيب الأنصاري -رحمه الله رحمة واسعة- وبعد فكَّي للحرف ثمَّ تعلُّم القراءة بدأتُ بدراسة مبادئ العلوم العربية، فالإسلامية. رأى -رحمه الله- أن يكون بدئِي لهذه الدراسة بدراسة سِيرة النبي- صلى الله عليه وسلم-، حَفظتُها عن ظهر قلب في مَنظُومةٍ رجزيةٍ اسمها: (قُرَّة الأبصار في سيرة المشفَّعِ المختار)، ودرستها عليه، ثمَّ بدأتُ بالآجرومية، دراسةً وفهمًا مُبسَّطًا جداً، ومضيتُ في تعلُّم فن النَّحو عليه بالتَّدرُّج هكذا: (الألفية لابن مالك)، كتابه في النَّحو: (الدُّرَّة الثَّمِينة)، نَظْمٌ لكتاب (شُذور الذهب) لابن هشام، البُهجة في النَّحو، ابن عقيل في النَّحو، الصَّبَّان على الألفية لابن مالك، (قواعد الإعراب) لابن هشام، (المُغني) لابن هشام أيضًا.
ودرستُ علم الصَّرف عليه أيضًا، في كتاب (التُّحفة البَكرية) تأليفه، ثمَّ في (الشَّافيَة) لابن الحاجب. وبذلك انتهت دراستي لعلم القواعد وحده، في مُدَّة استغرقت نحو أربع سنوات، ثمَّ حفظت القرآن المجيد، وصلَّيتُ به التراويح إمامًا.
وبعد ذلك درستُ على يدي الشيخ محمد الطيب الأنصاري كُتُب المعاني والبيان، على نفس التدريب المُتدرِّج. ثمَّ استأنفتُ على يديه دراسة علم اللغة بدءاً بالمعلقات، فقصيدة (بانت سعاد) لكعب بن زهير، فديوان النابغة الذبياني، فديوان امرئ القيس، ولاميَّة العرب، فديوان حسَّان بن ثابت، ثمَّ ديوان المتنبي. ثمَّ مضى بي -رحمه الله- إلى علم الفقه المالكي، فدرستُ مَنظُومة ابن عاشر، فأقرب المسالك، فشرحه، فالشيخ خليل فشرحه، ثمَّ علم الأصول: أُصول الفقه مُتدرِّجًا فيه أيضًا، حتى وصلتُ في دراستي له إلى كتاب الفُروق للقرافي، ثمَّ علم الفرائض هكذا بالتَّدرُّج أيضا، فعلم المنطق مبتدئا بايساغوجي، فالسُّلَّم، فشمس العلوم، فعلم الحديث بدءا بالموطأ للإمام مالك، ونُخبة الفكر في أُصول علم الحديث» (عبد القدوس الأنصاري، استدراك على بعض ما فات كُتيِّب الباحث المُفكِّر من الترجمة الخاصَّة، المنهل، ص631).
وفي معرض سرد عبد القدوس الأنصاري ما درسه وزملاؤه من علومٍ وفُنُون، على يد شيخهم الطيب الأنصاري في المسجد النبوي الشريف، وصنوف العلوم والفنون، ومراجعها العلمية الأصيلة- كما الأمر نفسه في مناهج مدرسة العلوم الشرعية، التي درَّسَهم الشيخ إياها- نلحظُ التنوُّع والشمول، والعناية بالمراجع الأصيلة، في المواد الدراسية. وهو ما يفسِّر متانة البناء العلمي، وأصالة تكوين أولئك التلاميذ، بحسب ما تجلَّى في إنتاجهم العلمي والأدبي فيما بعد..، من أمثال: عبد القدوس الأنصاري، وضياء الدين رجب، وأبو بكر التُّمْبُكتي، ومحمد الحركان، وعبيد مدني، وعمر بري، والأخوين علي وعثمان حافظ، وأسعد طرابزوني ، وغيرهم، الذين أشار عبد القدوس إلى مُزاملته إياهم، في معرض حديثه عن دراستهم على يد الطيب الأنصاري.
وكانت أُستاذيَّة الطيب الأنصاري، وتجلِّي آثاره في تلاميذه، محطَّ ملاحظة علماء ذلك الجيل وأساتذته، ومن جاء بعدهم، ومحلَّ إشادتهم.
ومن شواهد ذلك، ما درج على ذِكره وتكراره وتأكيده، العالم والفقيه الجليل، والمدرس في المسجد النبوي الشيخ عطية محمد سالم، من قوله واصفًا الطيب الأنصاري: «يُعتبر بحقٍّ أستاذ الجيل، وشيخ شيوخه الأفاضل، ومؤدِّب أدبائهم، وموجِّه شعرائهم، الإمام في المعقول والمنقول الشيخ محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري».