د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
أما العنوان الخامس الذي جاء في كتاب النحوي القدير الأستاذ الدكتور/ محمد عبدو فلفل (المعنى في النحو العربي بين الوفاء لوظيفة اللغة وإكراهات الصنعة النحوية) فهو (التأويل النحوي ليس في خدمة المعنى دائمًا).
والتأويل أن يعمد النحوي إلى النص الظاهر فيعيد صياغته بما يجلّي معناه؛ ولكنه قد يفعل ذلك لرعاية قاعدة نحوية مقررة خالفها النص، وينقل قولًا للزركشي في ذلك وهو «قد توجب صناعة النحو التقدير، وإن كان المعنى غير متوقف عليه، كما في قوله (لا إله إلا الله) فإن الخبر محذوف ... لاستحالة مبتدأ بلا خبر ظاهرًا أو مقدرًا، وإنما يقدر النحوي ليعطي القواعد حقها، وإن كان المعنى مفهومًا»(ص67، والنص في البرهان 3/115)، وينقل من أقوال المحدثين ما يبين أن النحويين يحاولون رد النصوص إلى ما يطرد والقاعدة، فعملهم كما قال علي أبو المكارم لا ينال تصحيح القاعدة وفاق الواقع اللغوي بل ينال الواقع نفسه «إذ هو وحده الذي يدخله التأويل ليتسق مع القاعدة ليتلاءم مع مقرراتها»(ص69، ونص أبي المكارم من كتابه الحذف والتقدير، ص340 ).
ولا يفوت أستاذنا الاحتراز الذكي مبينًا «أن طبيعة استعمال اللغة تحوج أحيانًا إلى تأويل النص بالإشارة إلى ما فيه من حذف، أو تقديم وتأخير أو غير ذلك مما تسمح به طبيعة اللغة في ضوء قرائن السياق» (ص69)، وقوله حق في لغة بلاغتها الإيجاز، ولها من الأغراض ما يقتضي التقديم أو التأخير، ولكن الذي ينقم من النحويين هو إيغالهم في تأويل متكلف قد يسيء إلى معنى النص، وينقل عن مازن المبارك أنه ليس عليهم تأويل ما خالف القواعد (النحو العربي: العلة النحوية نشأتها وتطورها، ص91)، ونفهم من كلام مبارك أن علينا قبول النصوص في إطار اللغة الواسعة التي هي أوسع من قواعدها.
وينبه إلى أن من أغراض التأويل عند النحويين تأويل النص بما يبطل حجة الخصم، وهو دخول الاحتمال الذي يبطل الاستدلال، ونقل عن كريم الخالدي «لجأ نحاة كل مدرسة إلى تأويل النصوص التي يحتج بها نحاة المدرسة الأخرى وصرفها إلى ما يجعلها ملائمة لأصولهم بما يدحض استشهاد الطرف الآخر بها»(ص71-72، والنص في نظرية المعنى، ص 117)، ويثير هذا كما يرى سؤالين أحدهما لم حرصوا على التأويل مع إمكانهم الاكتفاء بإقرار شذوذه أو تعليله، والآخر ما جدوى ذلك التأويل لنص لا يقاس عليه. ولم يجب أستاذنا عن ذلك ولكن الجواب في رأيي هو شغفهم باطراد النصوص في كيفية ما.
وما يهم الأستاذ هو بيان أن التأويل في الأساس لرد النصوص لتوافق القواعد المقررة، ويورد مثالًا لذلك: تعليق الظرف (يوم) في قوله تعالى (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [8، 9- الطارق]، والتقدير الذي ذكره هو أحد أوجه ذكرها العكبري في (التبيان في إعراب القرآن، 2/ 1281) «فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ» أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا: هُوَ مَعْمُولُ «قَادِرٌ» . وَالثَّانِي: عَلَى التَّبْيِينِ؛ أَيْ يَرْجِعُ يَوْمَ تُبْلَى. وَالثَّالِثُ: تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ «رَجْعِهِ» لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْخَبَرِ».
ومن أشهر مواطن التقدير تقدير البصريين فعلًا رافعًا للفاعل المتقدم في جملة الشرط كقوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) [6- التوبة]، وقوله (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)[1- الانشقاق]. وبابا الاشتغال والتنازع من أبواب النحو مبنيّان على التقدير. فزيدًا في (زيدًا أكرمتُه) منصوب بفعل مقدر، كأنه (أكرمت زيدًا أكرمته)، و(أكرمتُ وأكرَمني زيدٌ) كأنه (أكرمتُ زيدًا وأكرَمني زيدٌ). ومن ذلك الفصل بين المتضايفين كقول العرب (قطع الله الغداةَ يدَ ورجْلَ من قالها)، قال ابن مالك (شرح التسهيل، 3/ 249) «وتقدير الأول: قطع الله يد مَن قالها ورجْل من قالها».
ويختم الأستاذ مقالته بقوله «على هذا النحو سعى كثير من تأويلات النحاة إلى تكييف النص مع القاعدة، ورده إليها، وذلك بغرض صيانة حصانة ما توصلوا إليه أو تصورته أذهانهم من القواعد والأحكام والضوابط، وليس بغرض تحديد المعنى وتوضيحه»(ص74). وكان الواجب في نظري أن يستفيد النحويون من تلك النصوص المعاندة للقواعد لمراجعة القواعد نفسها؛ فلا ضير أن يكون لقاعدة تأخير الفاعل عن الفعل استثناء في مثل جملة الشرط التي تدل أداته على فعلية الجملة وإن تقدم الفاعل، وكان قول الكوفيين في هذا أسدّ عندي من قول البصريين، وأي بأس بإعراب (زيدًا) في (زيدًا أكرمته) مفعولًا به للفعل والضمير إن استتر أو برز ليس سوى دليل على المفعول به، إذ لفظه لا معنى فيه للمفعولية.