د. شاهر النهاري
درست وإياه على طاولات مدرسة الأبناء الابتدائية قبل خمسة عقود، وكانت لنا حكايات تأتي من العجب بمنتهى العجب، فالطفولة كانت عالمنا الخاص، نناقش بعضنا بين استدارة مدرس للسبورة، وبين التفاتته البوليسية للبحث عمن يشاغب، وأعيننا المتفجرة بالضحك تحاول إظهار البراءة، بطرق احترافية تعجز كل وسائل الرصد حينها عن اكتشاف دقائقها، فلم يكن في زمننا كاميرات مراقبة، ولا يمكن للمدرس المبتلى بنا أن يرصد شقاوتنا مهما كانت سرعة زنبرك عنقه ذهابا وإيابا.
كنا زملاء طفولة نعيش حكايات نحن من يكتبها، ومن يمثلها ويخرجها، ومن يغالب الضحكة، حتى لو ضحك الفصل بأجمعه من فكاهاتنا وجراءتنا، وتقمصنا لدور البراءة، الذي يشق جيبه منا.
كنا نستعيد ما حصل البارحة في ليلنا القصير، حيث كنا مندهشين بأن التليفزيون بدأ بثه التجريبي في مدينة الرياض، وكنا خير من يتابع ساعة البث لحظة بلحظة في منازلنا، منذ بروز السيفين والنخلة، وحتى شيوع خطوات النمل على الشاشة، بصوت تشويش نقتنع بعده أن موظفي البرامج غادروا تلفزيوننا، وأننا لن نشاهد بعدها، إلا ما يدور في مخيلاتنا على مخداتنا.
كان صديقي في الفصل أفضل من يستعيد ما شاهد بالأمس، فيدعي أنه من «شعوب الديلكس»، وكان يتقمص مغامرات «بوننزا»، وكم يتقن قيادة الغواصة الذرية، وعند الفواصل كان يحفظ أسماء الطيور والزواحف والزهور، والنباتات الغريبة.
متقمص يستمر في قيادة الغواصة ويصدر صوت فقاعات الهواء، وهي تتصاعد عند تحرك الغواصة، أو رسوها، وكان يحافظ على رباطة جأشه مهما هاجمتنا وحوش المحيط، ومهما اصطدم بالجروف، وكان يتحدث بذات صوت القبطان، بلغة أجنبية مزيفة، ولكنها تشبه النبرات، وتماهي الرنين والقفلات.
صديقي لم يكن يحبذ المشاركة مع الطلبة الآخرين في الفسح، ولا في مباريات كرة القدم، ولم يكن يهتم بما يحدث خارج كابينته، ولكنه يشعر الجميع باحترافية قيادته للغواصة، وأنه أفضل من يتحاشى طوربيد نظرات المدرس الطيب، الذي لم يكن يتوقع مطلقا أن يكون هو المشاغب، وهو ذلك الهادئ أمامه، وبأنه هو من ينكش القريبين منه بالحركات السريعة، ويشحنهم بالضحكات المكتومة، ويهاديهم بالمقالب الصغيرة، التي يقع في عواقبها غيره، ممن لا يجيدون قيادة معارك الأعماق.
وكعادة أبناء العسكريين، كان لا بد أن نفترق في يوم، ونرحل مع أهالينا، فنجد الصحارى تستقبلنا، وتجفف أقدامنا، حيث لا قبطان ولا شواطئ، ولا أعماق، وحيث نتوه في بحار الحياة الجديدة، ونجدف بأيدينا، ونجدنا نكتب في مدارسنا الجديدة حكايات تختلف، ونكتم أنفاسنا طويلا لنتعمق في أغوار حياتنا، ونحن متباعدون، لا نرى بعضنا، ولكنا بين السفرة والأخرى نسمع أخبار وقصص تبدل مساراتنا، ونسأل الزميل المشترك عن صحة من لم نعد نراهم، وممن لم يعودوا يجدون الإجابات عن مكاننا، وأحوالنا، وعن مستوياتنا الدراسية، والعلمية، وعن أعمالنا في مناطق قد تكون قريبة، وقد تكون متباعدة، ولكنها ترسم خرائط أعمارنا وتكتب التاريخ، الذي لم يعد مجرد شقاوة وفرح، ومرح، مع مراحل ودرجات تبدل ومسؤولية عن أسر وأطفال، وكراسي جلسنا عليها، ليس لنعزف ألحان أحلام أغوار البحر، ولكن لنجدف خلف أمواج حياة متغيرة، ملهمة، مخيفة مفرحة، حياة أصبحنا فيها نحن من نقود غواصات أعمارنا، ولا نخشى أي عمق.
كم من صديق مر في حياتنا، وحينما حان رحيله، لم نعد نلقاه، إلا في (نيجاتيف) صور الماضي، وتخيلات ضحكات (بيكاب) الزمن المتحجر، يحكي بنفس حنين الحكايات، ولا يستطيع تغيير أي منظر منها، ولا يكتب إلا المجهول، وحينما يجود الزمن بفرصة جديدة للتلاقي ولو بعد عدة عقود، تشدنا حبال الشغف لاكتشاف حدود وزوايا هوة فصلت بيننا، بين الأمس البعيد واليوم المليء بالحنين والشوق والخيال، فهل سأشاهد الساعة نفس الطفل القديم، أم أني سأجد نفسي أمام شخص غريب مختلف، يرتدي عباءة جلد منهك مجعد غير قابل للتبسم؟
كان نداء اليوم يحدوني لأقابله، بعد أن أصبحت جدا، ولا شك أنه أصبح شيئا مختلفا، وربما مفاجئ لما أحمله في شفرة ذكرياتي عنه من القوالب.
كنت أقود عربيتي، لأقابله في ذلك المقهى المتفق عليه، وأنا أتساءل كيف سيعرفني، وهل سيتمكن من خلس الغلاف الخارجي في وجودي، ليبلغ براءة طفولة كنت أحملها؟
ولحظتها كانت الصدفة تحكي على لسان فيروز في مذياع سيارتي، فأسمعها تشجعني على ما سأقول، مع اختلاف الحكايات:
«تذكر آخر مرّة شفتك سنتا؟
بتذكر وقتا آخر كلمة قلتا؟
وما عدت شفتك وهلّق شفتك
كيفك إنتَ. مَلّا إنتَ؟»
ويجملني عذب صوتها، وسباحتها في الماضي، وأفكر أن أستخدم أسئلتها: «كيفك؟ قال عم بيقولو صار عندك ولاد؟»
ولكن ماذا لو وجدته يموج كالموج، أوأنه تكلس بأمطار أحماض الحياة، وماذا لو كان يجلس معي شزرا، ورأسه فوق السحاب، وماذا لو سألته عن غواصته، وأنكر أنه أبحر فيها يوما؟
الحياة ليست مسلسلا مشوقا طريفا، ولا أغنية شجن، وربما تكون تربة غصنه ملحية رحلت به كثيرا عن جذع جمعنا.
عجبا فسرعان ما عرفني، وقام للتحية بضحكة مجلجلة، واحتضن الجد، وأنا أتفحص وجهه المختلف، وهو يحاول سبر الطفل وسط ذاتي.
كان لقاءنا واقعا، وآلة للزمن، وقبل أن يتكلم، ويضحك بنفس ضحكاته الطفولية الخجولة، وقبل أن أشعر بالحيرة، عرفت أن ذكريات الطفولة لا تزول، لقد عاد في نظري لنفس حجمه الطفولي وطباعه، وقد تحول المقهى إلى فصل دراسي، وتحول كرسيه لنفس المقعد الخشبي العتيق، الذي كان يرسم على جانبه ليقنعنا أنه يركب كابينة الغواصة الذرية، وحتى أني جاريته بالخيال، ووجدت أن الجرسون ليس إلا مدرسنا، يلوي عنقه عنا، وينظر للسبورة، ونحن نجيب عن سؤاله: ماذا تشربون؟
مسير الحي يتلاقى، واللب الطاهر البريء ومهما مر عليه من قشور وأقدام الزمن، يظل طريا بنفس الروح، ونفس الشغف، وفرصة جميلة لإكمال ترديد أسئلة فيروز، فعلا فقد سافرنا خارج البلاد، وعدنا، وصار عندنا أولاد، بل وأحفاد، وما أجمل الماضي، حينما يعود، ويستعاد، بروح وعمق وضاءة تتمنى أن تغوص حنينا، وتواجه كل وحوش الدنيا بسلام، وأمل ينبض، وعين لا تغفل عن لقاء سعيد، ومهما تأخر.