حامد أحمد الشريف
دائمًا نقول: إنّ البدايةَ هي عنصرُ جذبٍ كبير ومهمّ في العالم السرديّ، وهي المفتاح الذي ندلف من خلاله إلى السرديّة. فإن استغلقت واستحكمت أوساءت وجدبت، بحيث لا نستطيع تجاوزها، سننصرف عن الكتاب ولن نرى الجمال الذي قد ينتظرنا بين طيّاته. لذلك، عُدّت البداية غايةً في الأهمّيّة للسارد المبدع الذي يملك ناصية قلمه ويعرف جيّدًا موطئ كلماته ومعانيه وأفكاره. وبعيدًا عن الكاتب خالد الداموك وما نعرفه عن قلمه الرصين، وقدراته الحكائيّة، وجمال سرده، من خلال نتاجه الكبير المنتشر، ما بين مجموعات قصصيّة مجمَّعة، وقصص متناثرة، وروايات... فإنّ هذا النصّ يستغني عنه بالمطلق، ولم يكن بحاجة لمعرفة هذا التاريخ الرائع للكاتب لتحديد قيمته، بدليل هذه البداية التي أزاحته جانبًا، وتولّت هي قيادة عمله الإبداعّي؛ فقد كُتبت بعناية فائقة، وبتحدٍّ كبير، حين وُظِّفت لتحديد أبطال القصّة بطريقة سرديّة لا مباشَرة فيها، ومن دون الإخلال بجمال السرد وانسيابيّته. وحفلت أيضًا بالتشويق والإثارة المحفِّزة التي تدفعك لمطاردة الحكاية ومعرفة كلّ تفاصيلها، رغم تصريحها المخاتل. وكانت متوازنة في تعميتها على أصل الحكاية، رغم مخاطرتها ولعبها بالنار عندما أشارت إلى وجود علاقةٍ تربط شابًّا منزويًا بفتاةٍ جميلة يتغنّى بها الجميع، ويظهر أنّه ذاع صيتها وبلغ الآفاق. وخاطرت السرديّة أيضًا بالإخبار والتقرير - كما سيأتي لاحقًا - وهي تعلم أنّه أوّل ما يستوقف المتربِّصين المقولبين، وإن استطاعت تجاوز ذلك كلِّه بمراهنتها على الرغبة في الاستمتاع بالحكاية الغراميّة المثيرة، ومطاردتها، اعتمادًا على هيمنة الغريزة الجنسيّة وتعطيلها لعددٍ من الحواس. وكذلك ذكاء الكاتب في قدرته على التملُّص من اشتراطات القصّة القصيرة، بدون محاسبة، ونجاحه في هذه المخاطرة الكبيرة، معتمدًا على فهمه العميق للقوانين، وبالتالي كيفيّة تجاوزها.
جاءت المقدّمة ذكيّة بالفعل وقويّة، تأخذ بأيدينا مبكّرًا لمتابعة السرد، واكتشاف قيمة هذه القصّة القصيرة، وجماليّتها التي تتخطّى السذاجة السرديّة، وتبتعد عن الابتذال الحكائي الذي قد توهمك به نظرة سطحيّة للنص؛ فمغازيها ومراميها - كما سيظهر لاحقًا - أبعد ما تكون عن التصريح الفجّ. لكنّها بحاجة لحشد الجمهور خلف الحكاية، وهو ما نجحت بالفعل فيه، من خلال إدارتها الذكيّة للصراع الذي تحتمله الإشارات السيميائيّة التي لم تكشف كلّ أسرارها، رغم صراحتها المقلقة، واستخدامها أسلوبًا سلسًا وجميلًا للسرد، لا تعقيد فيه، وهو الأسلوب الكتابي الذي يصعب النهوض به؛ فالتوسُّط - كما هو معلوم - ليس بالأمر الهيّن، ما يدفع أغلب البشر غالبًا إلى التطرُّف والحدّيّة في تعاملهم مع أمورهم الحياتيّة، ويستسهله كثيرٌ من الكتّاب المتواضعين، في تقييدهم للحكي وتلغيزه، أو الإسفاف به وتسطيحه، بينما يكون الإبداع الحقيقيّ في القدرة على اللّعب في هذه المنطقة الرماديّة. وهو ما نجح فيه السارد بامتياز، فحظيت مقدّمته بالإتقان والروعة المطلوبة، وباتت مثالًا يحتذى به في فنّ كتابة القصّة القصيرة الإبداعيّة، إذ عرفنا من خلالها كلّ محدّدات السرد وخطوطه الرئيسة، واطّلعنا على أصل الحكاية من دون تسطيحها أو النفور منها، كما أجبرتنا على المواصلة ومحاولة الدخول في عمق الصراع، وصولًا إلى النهاية التي تبدو لنا معلومةً، ومع ذلك، بحثنا عنها، نزولًا عند رغبة السارد المهيمن على مفاصل نصّه، والممسك بدفّة التلقّي.
من جماليّات السرد الإبداعي وضعُه تحدّياتٍ قويّةً قد لا يكون بحاجتها إلّا من حيث تجويد عمله والارتقاء به إلى مصافّ الإبداع والإتقان المتجاوز؛ فالمبدعون، عادةً، تستهويهم المعوّقات التي يختبرون قدرة أقلامهم على تخطّيها. ذلك ما وجدناه في هذه السرديّة التي حفلت بالكثير ممّا يمكننا التحدُّث عنه، وإن لم نبتعد بعد عن المقدّمة التي أوشكت أن تقول كلَّ شيء وتنهي لنا الحكاية، من خلال تكثيفها لها واختزالِها، وأوقفتنا على بدايتها وصراعها وشخوصها وتطوّراتها، وأخبرتنا أيضًا بالنهاية الخادعة. وكان في ذلك تحدٍّ كبير، سنعرفه لاحقًا عند وصولنا إلى النهاية الحقيقيّة، وتأكُّدنا من مغازي السرديّة وعمقها الفعليّ. ثمّ إنّ المقدّمة استطاعت ضبط إيقاع السرديّة وسرعتها المحدّدة، وكان كلّ ذلك الفضح كفيلًا بإفشالها. فأيّ قصّة ستقرأ وقد أُفشيت كلُّ أسرارها ولم يعد ثمّة ما تنتظر معرفته والوقوف عليه؟! وهو ما جعل السارد يوقع نفسه في تحدٍّ كبير ليس من السهولة بمكانٍ تخطّيه. والأدهى والأمرّ، أنّه لم يكن بحاجته، لولا خياره الإبداعيّ الذي قاده لصنع التحدّيات وتجاوزها.
الآن وقد وقع المؤلِّف في مغبّة النرجسيّة الإبداعيّة، وجب عليه إظهار قدرته على تخطّي الصعوبات التي اختلقها من دون فقْد القارئ، وهو ما نجحَت فيه السرديّة بامتياز، باتّكائها أوّلًا على جمال السرد ولغته الأدبيّة الباذخة، وسرعته المحفِّزة التي لا تترك لك مجالًا لالتقاط أنفاسك، وكذلك وصفه المترع، ومشهديّته البالغة الروعة، رغم بساطتهما، واتّخاذها من كلّ ذلك وسيلةَ جذبٍ ابتدائيّة أمسكت بالقارئ من تلابيبه ودفعته إلى متابعة القراءة من دون الالتفات للتفاصيل أوالوقوف عند مسار الحكاية.
وكان لعتبة العنوان دورٌ محوريّ في الإمساك بالقارئ الحصيف الذي يسبر أغوار النصوص ويتحدّى كاتبها، أو لنقل، يعشق الدخول معه في صراع الإبداع من زاوية الفهم وفكفكة النصوص. فالعنوان، كما هو ظاهر، اختاره السارد بعناية، رغم تجاوزه، بتعدُّد مفرداته ومباشرتها. فهو لم يقل «غادة» ويصمت، مع أنّ بعضهم قد يكتبه على هذا النحو ظانًّا أن ذلك يُعَدّ عنصرَ تشويق؛ فالاسم المفرد مرغوبٌ فيه لقدرته على إثارة زوبعة من الاستفهامات تُجيب عنها السرديّة. لكنّه أسلوب قديم يفتقر للتحدّيات التي يبحث عنها من لا يؤمنون بالقوانين المقدّسة. جاء العنوان، رغم كلّ ذلك، ذكيًّا أيضًا في عدم فضحه للحكاية، رغم مفرداته الثلاث المتعلّقة بها، بذهابه باتّجاه تجاهل «سالم» عن عمد، مخفيًا النهاية التي آلت إليها العلاقة، خالقًا نوعًا من التشويق والإثارة، بحيث يدفعك لمتابعة الحكي بحثًا عن هذه النهاية التي باتت مجهولة؛ فالرسالة التي وردت في العنوان تشير إلى تفاصيل مشوِّقة يحتاج القارئ لمعرفتها، ولم تشر إليها المقدّمة. ولعلّ ذلك يعَدّ أوّل جرس إنذار ينبِّهك إلى التفاصيل الخادعة التي تنتظرك مع هذه السرديّة الذكيّة، فكان العنوان وسيلةً أخرى اتّخذها السارد مطيّة لاحتواء القارئ ودفْعه للمواصلة، وبرهنَ من خلاله على انتهاجه سياسة التحدّيات المفتعلة، واستمتاعه وإمتاعه بقدرته على تجاوزها.
إنّ وصف الـ»رسالة» في العنوان بـ»الأخيرة» هو خيارٌ ذكيّ أيضًا، إذ يشير إلى حدثٍ لن تعرفه إلّا بعد الوصول إلى النهاية، ما أضفى تحدّيًا جديدًا يجبرنا كقرّاء على المواصلة لمعرفة ما دُوِّن في هذه الرسالة، ولمَ كانت الأخيرة؟! وهل قُتلت الفتاة بعدها، أو قُتل الشابّ، أم أنّ العلاقة انتهت؟ أم كان هناك خيانة من أحد الحبيبَيْن؟! كلّ هذه الاستفهامات المنطقيّة لم يُجب عنها العنوان، ولم تتطرّق إليها المقدّمة، ممّا يؤكِّد نجاح السارد في تحدّيه لنا ودفعنا إلى متابعة السرد، رغم تصريحاته المخادعة. وهنا ينبغي الإشارة إلى نقطةٍ هي غاية في الأهمّيّة يسهو عنها بعضهم ممّن يعتقدون أنّ القصّة القصيرة مجرّد فكرة أو التقاطة عفويّة، وَجدت كاتبًا قديرًا متمكِّنًا من اللّغة، استطاع تدوينها. وثمّة مَن يعتقدون أيضًا أنّ التدخُّل في تغيير مسارات القصّة يُضعفها، ويدخلها في إطار الصناعة الممقوتة، بينما الواقع الإبداعيّ يقول بصناعة القصّة الإبداعيّة، ويحضّ على ذلك، إن لم يكن الكاتب قد وصل إلى مرحلةٍ من التمكُّن والإبداع تجعله يصنع القصّة الإبداعيّة من دون أن يشعر بذلك.
كلّ ذلك أظهرته لنا قصّة «رسالة غادة...» التي منحتنا أكثر من برهان على أنّها طُبخت بشكلٍ جيِّد في مطبخ كاتبها الذي صنع تفاصيلها بدقّة متناهية، ولم يترك شيئًا للصدف، خالقًا عدّة صراعاتٍ إبداعيّة كان يمكن تجاوزها، كاهتمامه بناقل الرسائل بين الحبيبَيْن « قعيّان أبو الذهب»، وتوظيفِه بشكلٍ احترافيّ لجلب اهتمام القارئ، بل والتعلُّق به، عندما أبدع في وصف حركته وطريقة إمساكه بطرف ثوبه، وشغفه الكبير بالدور الذي يلعبه، وإضفائه مسحة كوميديّة على تصرّفاته، وتفاعل الحارة معه. دعونا نقرأ ما كتبه بدايةً عن رحلته المكّوكيّة بين الحبيبين، في قوله: «ففي كثيرٍ من الأيّام كان يرى «قعيّان أبو الذهب» يركض وفي يده ورقة قادمًا من أوّل الشارع حيث بيت رويجح، متّجهًا بها إلى آخر الشارع حيث بيت سالم. والناس في الحارة؛ الجلوس على الدكك أو المجتمعون في تكتّلات متفرّقة أو المنفردون على عتبات الأبواب، كانوا يتركون ما بأيديهم ويتابعون الصغير صاحب الطاقيّة المطرّزة بخيوط القصب والمثبتة على رأسه جيّدًا وهو يحزم طرف ثوبه على خاصرته وينطلق كسهمٍ نحو هدفه مراوغًا السيّارات والمارّة بمهارة عامدًا إلى طرف الشارع والنوافذ تُصاحب ركضه فتُفتح تباعًا لتشاهده أعين النساء من خلف الستائر وهو يركض.» انتهى كلامه.
لقد أبدع السارد - كما يظهر - في توظيف الطفل « قعيّان»، وأدخله في عمق الحكاية. وأظهر أهمّيّته المخادعة أيضًا من خلال تطرّقه إلى الرسالة في العنوان، وإيكال هذه المهمّة له، ما يشير إلى الصناعة التي نطريها ونرغب فيها. فشخوص العمل، والأدوار التي نهضوا بها، وُظّفت توظيفًا جيّدًا في عمق السرديّة المثري - كما سيتبيّن لاحقًا - أي أنّها أتت بقرارٍ من السارد وليس اعتباطًا. ولقد نجح في خياراته تلك أيّما نجاح، بدليل منحه «مرسول الحب» قيمةً كبيرةً تتجاوز التهميش الذي غالبًا ما يحظى به أمثالُه، ونجاحه بالفعل في جعله يستحوذ على اهتمام القارئ ويدفعه لاستكمال القراءة، جاعلًا منه العنصر الثالث ضمن العناصر التي وظّفها لتجاوز مقدّمته الفاضحة.
لقد استطاع «قعيّان» أيضًا إيقافنا على الذكاء الكتابي، الذي يعني قدرة النصّ على تحفيز القدرات العقليّة للمتلقّي، وتوظيفها في متابعة السرد واستكمال نواقصه، وهي المزية التي وجدناها هنا، ويمكن اعتبارها العنصر الرابع من عناصر التحفيز القرائي. هذا الحضور الذكيّ والمتعمَّد للطفل، يدفعنا إلى إقحامه في صراع السرديّة، رغم هامشيّته المحتملة. فالرسالة هدفٌ استراتيجيّ للنصّ انطلاقًا من العنوان، وهناك نسخة أخيرة منها، هو المعنيّ بنقلها. ممّا يطرح عدّة استفهامات ذكيّة تُثري النصّ وتدسّمه، وتشغلك به وأنت تحاول استيعاب الهدف الحقيقيّ منه، حتّى يتأكد لك أنّ التفاصيل المسرودة المتعلّقة بالطفل لم تكن من باب الكوميديا فقط، وإنّما هي محاولة لإفهام القارئ أنّ ثمّة دورا رئيسا سيلعبه في صناعة الحدث النهائي. من ذلك مثلًا، أن يكون أخفق في إيصال الرسالة الأخيرة، أو دفعَها إلى الشخص الخطأ، أو فقدَها وعثر الأخ عليها... فيكون بذلك قد أسند إليه مهمّة إنهاء الصراع السرديّ. وكثيرة هي الاحتمالات التي قد ترتقي بدور الوسيط الناقل وتمنحه الفرصة للعب دورٍ أكبر... وكلّ ذلك لن نعرفه إلّا باستكمال القراءة حتّى النهاية، ما يشير بوضوح إلى المنهجيّة العالية التي استخدمها السارد للتغلّب على التحدّيات المفتعلة التي صنعها واستمتع وأمتع بتجاوزها.
الآن وقد انتهينا من منهجيّة السرد وبعض التحدّيات المصطنعة، نريد التوقُّف قليلًا عند عمق الحكاية ومعانيها المستهدفة، في ظلّ إيماننا بأنّ المقدّمة إنّما هي خدعة مارسها السارد لإطلاعنا على مهاراته السرديّة، ودفعنا للقراءة المتأنّية للنصّ بحثًا عن هذه المغازي الخفيّة، ومحاولة استظهارها من خلال المشاهد اللاحقة التي بدأت تتوالى هاتكةً أسرار الحكاية. ويمكن التقاط ذلك من المشهد المجنون الذي صوّر لنا باحترافيّةٍ عالية وبجمالٍ بديع تعاملَ أبناء الحارة مع حادثة تبادل الرسائل بين الحبيبين، وفيه يقول لنا السارد:
«وممّا يتذكّره رويجح بشكلٍ جيّد فيزيد غيظه، وقوفه ذات يوم مع عضيان اللهيبي أمام بيت الأخير واستغراقه معه في حديث مهمّ فيما قعيّان أبو الذهب يبدأ في تلك اللحظة انطلاقه من أوّل الشارع وبيده ورقة، فإذا بعضيان يقاطع حديث رويجح مستمهلاً إيّاه وينسحب نحو منزلهم ويُدخل رأسه عبر بابه مبقيًا جسده في الخارج ويصرخ لمن بالداخل معلنا:
«قعيّان أبو الذهب يركض في الشارع»
«قعيّان أبو الذهب يركض في الشارع»
فُتحت ثلاث نوافذ في الطابق العلوي على إثر صيحة عضيان فلم تفت رويجح ولكنّه لم يفهم شيئًا. بل إنّ عضيان تجرّأ قبل أن يعود رويجح إلى موضوعه المهمّ، فأمسك بكتف الأخير وسحبه إلى منتصف الشارع وأوقفه أمامه ليستقبل وجهه ومن خلفه منزل سالم، ثمّ طلب من رويجح إكمال حديثه بلا اهتمام وظلّ طوال الوقت يستطيل برأسه أو يُميل جسده ليشاهد ما يحدث خلف محدّثه، ولم يستعد اهتمامه بحديث رويجح حتّى رأى قعيّان يسلّم الرسالة لسالم على باب الأخير.» انتهى كلامه...
إن تجاوزنا دقّة الوصف وجماله، ومشهديّته الاحترافيّة الرائعة، وكوميديا الموقف الإبداعيّة، فإنّنا سنجد أنّ هذه القصاصة من النصّ تشير بدايةً إلى التركيبة السُّكّانيّة للحيّ المستهدَف، مُظهرةً بساطتهم، وربّما أمّيّتهم. وفي ذلك ذكاء من السارد أيضًا، حتّى لا يُرهق نصّه بمواصفاتهم، مكتفيًا بإشارات سيميائيّة محدَّدة، لنعلم أنّه يتحدّث عن عاداتٍ سيّئة في الفضاء المكانيّ المستهدف، تحمل شيئًا من الفكاهة السوداء، كالفضول السيّئ، والانكفاء على الذات وقت الفضائح الشخصيّة التي تستلزم المؤازرة والتعاضد، حتّى لا يطالهم جميعًا ما تغاضوا عنه ولاكوه بألسنتهم واستمتعوا بمتابعته. كذلك بحثهم عن الإثارة التي تحيي ركود حياتهم وتُسَلّيهم، من دون الالتفات إلى ما سيصيب غيرهم. وإظهارهم شيئًا من التناقض، بتعاضدهم وتكاتفهم في المناسبات العلنيّة كالأفراح والأتراح. ما يعني أنّهم يصطفّون غالبًا مع من يلوِّن حياتهم، بغضّ النظر عن اللون الذي سيصبغهم به، فيُثرون حتّى مشاهد الفضائح ويمنحونها القوّة التي تحتاجها، ويصنعون منها حكاياتٍ تُروى ويتمّ تناقلها وإذاعتها، وإن كان ذلك في الخفاء. بمعنى أنّهم يمارسون النفاق الاجتماعيّ في أعلى درجاته. وهي المواصفات السلوكيّة الاجتماعيّة الملازمة للمجتمعات الصغيرة. ولم يعوز كاتبنا لقول كلّ ذلك إلّا اختيار الأسماء التي يلصقها بأبطال قصّته فقط.
إنّ هذه السلوكيّات السيّئة - في ظنّي - هي أحد أهمّ المغازي العميقة التي اجتهد الكاتب في إيصالها، ووظّفها للنهوض بالنصّ وتدسيمه، وإبعاده عن السطحيّة، ما أظهر لنا أنّ الحكاية لم تُفصح عن كلّ حيثيّاتها في المقدّمة الخادعة التي تجاوزت بالفعل «غادة» و»سالم» ووصلت إلى المجتمع الحاضن لقصّتهما. وحتّى لا يقال أنّنا نحمِّل النصّ ما لا يحتمل، نعود إلى القصّاصة السابقة، فنجد أنّ تصرُّف «عضيان» مع أهل بيته يؤكِّد هذا الفهم، فلم يكن غيره ليترك محدّثه ويذهب لأمر ٍتافه كهذا، عندما قام بقطع حديثه فجأة وذهب بسرعة لإبلاغ أهل بيته بالحدث المنتظر، وبدا أنّه لم يكن في تقديره حدثًا عاديًّا، فأهل بيته يترقّبونه وينتظرونه - كما الجميع - بشغفٍ كبير، في وقتٍ كان الأجدر بهم، أن يحرصوا على عدم رؤية مثل هذه المشاهد، لما فيها من تجاوز أخلاقيّ، ولما قد تأتي به من مضارّ على المدى البعيد؛ فالمشاهدة التي تصنَّف خبرة غير مباشرة، حسب مخروط «إدجار ديل» للوسائل التعليميّة، تأتي في المرتبة الثانية من حيث التعلُّم، ما يعني أنّ هذا العبث يفضي إلى غرس هذه السلوكيّات، وترسيخها والقبول بها، بل والحضّ عليها، ولن تكون مجرّد مشاهدة للاستمتاع فقط كما توحي النظرة السطحية للمشهد، ممّا يشير إلى المغزى الحقيقي للعمل الإبداعيّ الذي استخدم قصّة «غادة» المخاتلة مطيّةً للوصول إلى هذا الهدف المهمّ والمحوري.
وإذا ما توغّلنا أكثر في النصّ نجد أنّنا نزداد يقينًا من فهمنا لمغزى الحكاية، فكلّ المشاهد التالية باتت تصبّ في هذا المعنى وتستظهره وتقوّيه، كقوله في تعرية النفاق: «وهناك من التحى ولسانه لا ينفكّ عن طلب الستر لنسائه ونساء المسلمين.» انتهى كلامه. أيضًا تجمهُر أبناء الحارة أمام بيت «سالم»، وتظاهرُهم بعدم معرفة سبب غضب «رويجح»، وكذلك اصطفافهم مع «رويجح» بعد إعلانه عن السبب، وسبّهم «سالم» وكأنّهم يعلمون ذلك لأوّل مرّة. وهي المواقف المتبدِّلة التي فهمها «رويجح»، وإن متأخّرًا، وتسبّبت في القطيعة بينهم، وهي تشير صراحةً إلى العمق الذي نتحدّث عنه، ويتعلّق بالسلوكيّات المجتمعيّة السيّئة التي أظهرتها بهذا الوضوح بساطة الناس وعفويّتهم، أو لنقل، سذاجتهم المجتمعيّة، وغيّبها ظاهريًّا وعي بعضهم وتعلّمهم في المجتمعات المتحضّرة والمتمدّنة؛ ما يعني أنّ النصّ لا يستثني أيًّا من المجتمعات، بكلّ طبقاتها، وإنّما استهدف هذا المجتمع كعيّنة، لأنّه مجتمع فاضح لا يستطيع إخفاء سوئه. وهو ما يشير إلى أنّنا غالبًا ما تُحرِّكنا مصالحُنا الشخصيّة، فنستمتع بكلّ المشاهد الحياتيّة طالما لا يطالُنا سوءُها. ولقد برهن النصّ على ذلك من خلال إظهار عودتهم مرّة أخرى إلى متابعة «قعيّان» وهو ينطلق برسالة غادة الأخيرة، رغم موقفهم الأخلاقيّ وتفهُّمهم لبطش رويجح بسالم حين علم بالرسائل. وكان تكرار المشهد بكلّ تفصيلاته رسالة واضحة أرادها النصّ وتحقّقت بالفعل.
بالطبع كلّ هذا الجمال لن يصرفنا عن بعض الهنات التي شهدها النصّ، إذا ما نظرنا إلى القصّة من زاوية قواعد كتابتها، والقفز على هذه القواعد، وإن لم يكن لها ذلك التأثير الكبير على قوّة النصّ وتماسكه وجماله وقدرته على تجاوز التحدّيات المفتعلة. هذه المطبّات الكتابيّة التي أتحدّث عنها، ظهرت أيضًا في بعض كتابات إحسان عبدالقدوس القصصيّة، ومع ذلك لم تقلّل من قيمتها أو تخفي جمالها، إنّما أثّرت فقط على تجنيسها. والقارئ متذوِّق الجمال فقط لا يلتفت غالبًا إلى مثل هذه الإشكاليّات. وأعني بذلك وقوع عبدالقدوس في التقريريّة السلبيّة في كتابه القصصي «صانع الحب»، وبالأخصّ قصّة «عذراء هولندا» التي كان ينبغي إنهاؤها عند صفع البطلة لحبيبها ومغادرتها، وترْك الباقي لحصافة القارئ، مستثمرًا ذلك في صناعة نهاية إبداعيّة مخاتلة تقوّي نصّه. لكنّه لم يفعل، وإنّما ذهب باتّجاه شرح ما حدث وتبريره، وممارسة دوره ككاتب رأي، ولم يستطع الراوي العليم الذي يجوز له استخدام التقريريّة بشروطها، إنقاذ نصّه، إذا نظرنا إليه على أنّه قصّة قصيرة. وهو الأمر نفسه الذي وقع فيه الداموك مستخدمًا الراوي العليم أيضًا لتمرير بعض العبارات التقريريّة. ما يشير إلى أنّ هذا التجاوز مقصودٌ من الكاتب، ويوضع ضمن التحدّيات المفتعلة التي أرادها للارتقاء بنصّه، واستطاع بالفعل تمرير العديد من العبارات التقريريّة من دون أن تنال من نصّه، رغم علمه أنّ التقريريّة غير الموظّفة والساذجة تُضعف النصوص وتقول أكثر ممّا ينبغي قوله، وتقلّل من قيمتها، كما قد تقتل النص إذا ما أتت في نهايته. فعل ذلك رغم أنّ هذه القّصة تحديدًا لم تكن بحاجة لشرح وتبيان أهدافها ومغازيها، أو الإتيان بتبريرات لقبول سيرورة أحداثها ومشاهدها. وكان السارد بغنى عن الانشغال بناقد كسول قد يحمِّل النصّ ما لا يحتمل، ويذهب باتّجاه التقليل من قيمة المشاهد التي يستعصي عليه فهمها.
ولكن، كلّ ذلك لن يمنعنا من التوقُّف أمام قوله: «لن يستطيع أحد معرفة الطريقة التي أُفشي بها سرّ سالم وغادة وانتشر بين الأهالي»، وقوله أيضًا: «أمّا ما جعل الأهالي يولون اهتمامهم للقصّة ودفعهم لمتا بعتها، فربّما يكون ندرة الحبّ ولذّة التخيُّل والحنين إلى الرسائل بين العشّاق التي وأدتها المكالمات. كانوا يشعرون بوجود حبٍّ حقيقي بين الطرفين لأنّ هذا الحبّ يتّخذ من الرسائل وسيلةً للتواصل رغم انتشار الهواتف في البيوت تلك الفترة.» انتهى كلامه.
فهذه الجزئياّت تحديدًا، أرى أنّ ضررها أكثر من نفعها، وكان الأجدر بالسارد حذفها وترك المعاني المستهدفة لذكاء القارئ وقدرته على استكمال النواقص الإبداعيّة، إذ لم يكن المتلقّي بحاجة للأخذ بيده لفهم هذه السرديّة وإيصال رسالتها، رغم أنّ إيرادها على لسان الراوي العليم - كما أسلفنا - يجنّبه المحاسبة، وربّما يجعله يسخر من مناوئيه. في وقت، كان الأجمل دعم ذلك الجموح القرائي لنخب المتلقّين، وجعلهم يستحضرون تلك المشاهد الناقصة، ويتفنّنون في صناعتها بأخيلتهم الخصبة التي قد تذهب بها إلى أبعادٍ تتخطّى الواقع وتتجاوز أحيانًا ما يتمناه السارد لنصّه، بدل إفقادهم هذه المتعة. ومن المعلوم أنّ ذلك لن يحدث طالما اكتملت الحكاية بكلّ فصولها أمامنا، ولم يعد باستطاعة القارئ صناعة حكاية تخصّه هو بالمقاسات التي يريدها، كما هو الحال مع كلّ القصص الإبداعيّة. ولعلّي أنوّه هنا إلى أنّ ما يفصل بين التقريريّة الإيجابيّة والسلبيّة، شعرةٌ يصعب تجنّبها، ومن الأحوط الابتعاد عنها إن لم يتطلّبها المشهد ومغازي النصّ العميقة، ويكون الكاتب قادرًا على تمريرها. والأفضل ترك المشاهد تدير صراعاتِها بنفسها، وتوصل رسائلَها لوحدها، حفاظًا على قوّة السرديّة وقدرتها على تعليق القارئ بها.
نقول ذلك رغم إقرارنا بذكاء الكاتب في اختياره الراوي العليم الذي استطاع بالفعل تمرير عددٍ من العبارات الخبريّة والتقريريّة، وبات الوقوف عندها وذكرها كمثلبةٍ سقطةٌ للناقد وليس للكاتب. وهو ما يجعلني أقولها بكلِّ وضوح، إنّ هذا الاختلال البسيط لم يفسد السرديّة أو يقلِّل من قيمتها مطلقًا. غاية ما هنالك، تسليط الضوء عليها كمحطّة ينبغي الحديث عنها والتعلُّم منها. فالنصوص كالنساء قد تفتنك فلا ترى عيبها، وقد تصرفك فلا ترى حسنها مطلقًا.
بقي القول: إنّ حرفيّة القاصّ تكمن في قدرته على تجاوز محدّدات الحكي بطريقةٍ إبداعيّةٍ تجعلك لا تلتفت إليها. ويعَدّ ذلك ضمن أهمّ مقاصد النصّ. ولعلّ الأهم من ذلك كلّه، أنّ فحوى «رسالة غادة الأخيرة» التي لم يُصرَّح به، لربّما يُختصَر بأنّها أرادت إخبارنا أنّنا نعيش في مجتمعٍ زائف، لا يهتمّ إلّا بمتعه الشخصيّة، لذا لا ينبغي أن ننشغلَ به. وأنّه لن يُعلي من شأننا ويُظهر قيمتنا الحقيقيّة إلّا افتعال بعض التحدّيات التي ستُظهر إبداعاتِنا الحقيقيّة.