تركي بن رشود الشثري
«على هامش معرض الرياض الدولي للكتاب 1445هـ»للقارئ الحقيقي ميزة تفصله عن باقي القُرَّاء، وهي أنه يعيد تشكيل ذاته من خلال قراءاته، ولا يعني ذلك أنه إسفنجة تمتص الكتب، وتتأثر بها بلا فلاتر صحية، ومُنَقِيات طبيعية، لا أبداً، ولكن بما أننا وصفناه بأنه قارئ حقيقي، فهو ينتقي ما يقرأ بعناية ودقة، ويعني أن روحه تجذب له الكتب المشابهة لها، ويعني أنه يقوم ببناء الكتاب مرة أخرى وفق نَسْجِه وخياله وفكره وبُعده الخاص، فهو متفاعل مع الكتاب لا فقط منفعل.
إن الكتب التي يقرأها القارئ الحقيقي جزء منه وهو جزء منها، إنه يجد نفسه بين طياتها، كما يجد نفسه في بعض اللوحات الفنية، وفي بعض البحيرات النقية، وبعض الغابات الغنية، إنه شبح طواف، يلف العالم في لحظة، ويخترق التاريخ في برهة، ويتنقل حيث شاء بين المعاني والمباني.القراءة تمكننا من إعادة تفسير أنفسنا، فنحن نجد ذواتنا، ونلتقي بشخصياتنا، ونصادف أرواحنا تَعْبُر في هذا الكتاب أو ذاك، فنصافح أنفسنا، ونسامح أنفسنا، ونتقبل أنفسنا، ونحتضن أنفسنا، ونشير إلى صفاتنا العالية، ونختار رفقاء دربنا، ونتشاعر مع من نحب ونحن نقرأ، ونطيل الحديث عن ماذا قرأنا، وماذا فهمنا، وماذا اكتسبنا، وبماذا تأثرنا.
الكتب العظيمة قليلة، والكتب المفيدة قليلة، والكتب التي تشبهنا أقل من القليل، فنحن نبحث عن قليل من قليل من قليل، ولكن ما أن تتحقق المعجزة، ونغوص في كتابنا الأثير، ونغترف من نهله الصافي، إلا ونشعر بأننا في سفح جبل شاهق، ومياه الشلال تتخلل جوانحنا، وتضيء شمس المعرفة قلوبنا، وتغمرنا الغيمات الصغيرة بندف الأبخرة المنعشة.
إن فعل القراءة يساوي فعل اللاقراءة إذا لم يكن كما وصفنا قبل قليل، وإن فعل اللاقراءة يساوي فعل القراءة إذا كنا نجيد التأمل العميق، والصمت الشفيف، والحضور الآسر، والتكيف المبهر، إن القارئ الحقيقي لا يكتفي بقراءة الكتب، بل قد يكتفي في المدد الطويلة بالرفرفة فوق الصفحات والتقاط الإشارات الدقيقة الموحية المُبَشِرة.
القارئ الحقيقي إضافة، القارئ الحقيقي فعل، القارئ الحقيقي حضور، القارئ الحقيقي يعيد تشكيل نفسه، ويعيد تفسير نفسه، ويعيد قراءة النص، ويُفَجِّر ينابيع الحِكَم، ويُضِيء قناديل المعرفة، ويُلهِبُ فؤاد الشوق، وينشر عبير العرفان، ويَدُقُّ اسطوانة الخَلَق، ويَرِنُّ نغمة التكوين.توقف عن القراءة، ثم أقرأ مرة أخرى، تمكن من معرفة نفسك، ثم حدد ما تريد، كن شفافاً في اختيار الكتاب، وسيقدمك لنفسك لا كما تريد، بل كما أنت.
كن أنت، وستكون قارئاً حقيقياً.