د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
صورةٌ أولى..
وقتَ عملي في التحرير الثقافي هاتفني كاتبٌ بارزٌ وسألني سؤالًا غريبًا لم أفهمْه في حينه ولا أتفهمُه حتى اليوم؛ فقد قال:
مَنْ لديكم من العاملين في الصحيفة من أهالي بلدة (...)؟
وللحقِّ؛ فلم أُجب؛ إذ لم أكنْ أبني معرفتي بأحدٍ على أساس أنه من هذه المدينة أو تلك، وأجبتُه: لا أدري، ولم أستفهم عن سبب سؤاله تأدبًا معه، غير أنه كفاني باستطراده:
«لديكم من يتعمّدُ عدم نشر لقبي العلميِّ وصورتي التي اخترتُها»
ووعيتُ أن الكاتبَ الكريمَ ينحدرُ من البلدةِ التي سأل عنها؛ فلعلّه شكَّ بوجود من لا يودُّه من ناسه، وربما شاء أن يهمسَ لي للاهتمام باسمِه ووسمِه، وحتى هذه اللحظة - وقد مضى على الحكاية ثلاثون عامًا أو يزيد، وغادرتُ الجزيرة منذ عامٍ وبضعة أشهر- لا أعلمُ عمَّن حكى، ولم أهتمّ بتتبع أيِّ انتماءاتٍ إقليميةٍ أو قبليةٍ أو مذهبية؛ فالوطنُ وحدتُنا من النفود إلى الأخدود ومن الماء إلى الماء، والله هو الحسيبُ والرقيب.
صورةٌ ثانية
عاتبني كاتبٌ قديرٌ جديرٌ برسالةٍ مكتوبةٍ نشرتُها في «ثقافية الجزيرة» لأنني أوضحتُ تحت مقالِه تعريفًا بمنصبه، واضطررتُ في عددٍ تالٍ للاعتذار، ومِمَّ؟ مما أشغلَ آخرَ سبقه لأنه لم يُوفَّ بما رآه حقّه، وما يزالُ يُشغلُ الأكثرين بما يرونه تمييزًا لشخوصهم، ولا تثريبَ على من احتوته الهوامش وشكرًا لمن احتواها؛ فالنجوميةُ داءٌ والمناصبُ خَواء، وكلٌ سيعودُ - في أخريات حياته - ليواجهَ نفسَه بنفسِه بعيدًا عمَّن رفعوه ومن وضعوه «ويلٌ للمطففين»، وفي التأملِ دروسٌ للمتأمِّل.
بين الصورتين
مضت الحكايةُ الأولى بتفقدٍ دقيقٍ للألف والدال والطّلة إكرامًا لمستحقٍ طلب حقًا، ومن غير أن ننشغلَ بتتبع هُويَّاتٍ أو تبرير احتمالات، وبقيَ المُعاتِبُ المُؤثِرُ ظاهرةً فريدة؛ فالاستتارُ ظهور، والاستئثارُ قصور.
كتبتُ اعتذارًا عن ذكر منصب معاليه في العدد 36 من المجلة الثقافية الصادر في العاشر من شهر نوفمبر عام 2003م، وهذا نصّه:
(ولاحظواكثرةَ الأقواس والنقط؛ فقد كان دربًا سلكتُه زمنًا ثم هجرتُه، واعتدتُ أن أشكلَ التنوين فصرتُ أشكلُ آخر حرفٍ قبله، وآثرتُ إبقاء النصِّ كما ظهر قبل عشرين عامًا).
...
(اعتادت «الصحافة» في مسلك إجرائيّ أن تميّز «كتابها» وكاتباتها عن طريق تذييل أسمائهم أو مقالاتهم بما يشير إليهم فيُعرف بهم.. من مثل «رئيس تحرير، أستاذ بجامعة..، عضو مجلس الشورى، وزير، مدير، رجل أعمال، الخ»، ويُكتفى لمن لا يشغلون «مناصب محددة» بصفة «كاتب» أو نحوها.
وقد سرنا على هذا النهج مع أُستاذنا الكبير معالي الشيخ عبدالعزيز السالم في «موضوعين» نشرناهما عبر العددين الماضيين، فهمشنا تحت اسمه الكريم موقعه الوظيفي لا لأنه الأهم دلالة.. بل لأنه «الأقرب» تناولاً.
ومن يعرف «أبا عصام» يدرك أنه أحد رموزنا الثقافية الكبيرة وأحد ذوي الأقلام الجادة الرصينة التي أضاءت وأضافت.. وقد استمر «سنوات» ينشر مقالاته تحت اسم «مُسلم بن عبدالله المسلم».. فلم يبحث عن «ضوء» وهو «المضيء».. أو انتشار وهو الذي اختار حجب اسمه وصورته إلى وقت قريب.
أشرنا إلى مركزه الوظيفي اقتفاء لنهج ذائع رغم وصول موضوعي الشيخ عبدالعزيز على أوراقه «الخاصة» مجردة من الإشارة إلى عمله.. مما نؤكد معه أنه لا شأن لأبي عصام بما ذيلنا اسمه به.. بل هو جري على «سنّة» نعتذر عنها فقط مع هذا الرجل المثالي المتميز الذي نعرف عنه أنه من أزهد الناس في الألقاب والمناصب، وممن يؤمن أن هذه الشكليات ثياب مستعارة لا تدوم وأن من لا يعلو بذاته لا يُعليه لقبه.. أو منصبه.
دمت أبا عصام.. وعذراً فنحن في زمن لا يتفق كثيراً مع رؤيتك النموذجية التي تُعيدنا إلى عصور الأفضلية..)
(انتهى)
سيرته نجاح وذكرياتُه فشل
كذا كتبتُ عنه يومًا مكملًا:
«لم يُغره منصبٌ أن يفخر، ولم يدفعْه جاهٌ كي يظهر، وبقي شامخًا كنخلة تهَبُ الظلّ، وتسمقُ في العلياء.
يُنكر ذاته، ويتجاهلُ صفاتِه، لكنّ الناس يعلمون فيذكرون، وهو درسٌ لمن يُعلنون؛ فلا جدوى من ثناءٍ مستأجر تُدفع قيمتُه ثم تنسفحُ قمتُه؛ إذ حظوة ذي المال والحال رهنٌ بحاشيةٍ تنتفع، وأعلامٍ ترتفع، وحين تجيءُ الحقيقة المُرّة بإقعادٍ أو إبعاد ينفضُّ السامر ويخبو السمر...»
«إمضاء لذاكرة الوفاء، ص 155-157- 2011م».
--
لم يرَ نفسه فرأيناه، وعدّد إخفاقاته فلم نرها، وكتب في موجز سيرته:(ذكرياتٌ مما وعته الذاكرة 1431هـ-2010م –199 صفحة) إلماحاتٍ عديدةً تُذكر وتقدّر، وهذه إشارةٌ لا أكثر:
« ... ولو تأملتَ مسيرة حياتي لوجدت أن محطات الفشل ربما كانت أكثر من محطات النجاح»...»ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لعدلتُ مسيرة حياتي إلى مجال أفضل لا من الناحية المادية الدنيوية التي لا أهتم بها، وإنما من الناحية التي تُهمني جدًا، وهي الناحية الثقافية الفكرية، «...» وعلى هذا الاعتبار فإني أُصنف نفسي في عداد الفاشلين....» ص 194
خطوطٌ في مسيرته..
تكفي هذه الأسطر للإعلام لمن لا يعلم من الجيل الشاب؛ فأبو عصام من كبار مستشاري الملك فهد -رحمه الله- مذ كان وزيرًا للمعارف فالداخلية، وواصل عطاءه في أمانة مجلس الوزراء والديوان الملكي، كما أشرف على تأسيس مجلس الأمن الوطني عام 1390هـ، وصدر له: مأزق القيم، ووقفات مع ذكريات الأستاذ عبدالله القرعاوي، وكتاب الذكريات، درس في المدرسة الأميرية بالأحساء موطن تجارة والده، وفي حلقة سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله- في الخرج، والمعهد العلمي السعودي بمكة، ونال الشهادة الجامعية من كلية الآداب بجامعة القاهرة، ورغب في إكمال دراساته العليا في جامعة لندن لولا ظروف عمله.
كيف عرفتُه؟
المبتدأُ مقالاتُه التي قرأتُها يافعًا بعدما شهدتُ إعجاب والدي -رحمه الله- بسموِّ فكره، واعتدال طرحه، ولم يكن اسمُه الذي يَنْشر به اسمًا حقيقيًا له؛ فاختار اسمًا ذا دلالة لا شخصًا ذا عمامة، وما أزال أذكر حيرتي أمام نطقه؛ فهل هو: مُسْلم بن عبدالله المسْلم - بسكون السين- أم مُسلَّم بن عبدالله المُسلّم - بفتح السين وتشديد اللام-، وزاد في الحيرة ألا وجود لصورته مع مقالاته، وحين عرفتُ أنه: عبدالعزيز بن عبدالله السالم أدركتُ أنه الكبير اسمًا ووسمًا وعلوَّ مناقب ومناصب.
أذكرُ أولَ اتصالٍ من «معاليه» من رقمٍ ثابتٍ دون سكرتير يُعرّف به فأنتظر على الخطّ؛ إذ فاجأني بتعريف نفسه مباشرة، وهو العَلم، وكان هدفُه الثناءَ على احتفالٍ كبيرٍ قدَّمتُه، ولا أذكر: أكان لمناسبة في معهد الإدارة أم في افتتاح مبنى الجزيرة أم في جمعية ألزهايمر أم في سواها، والأهمُّ أنها كانت عينَ الرضا من رضيٍّ كريمٍ، ثم هاتفني ثانيةً ليُعاتبني على تذييل مقاله بموقعه الوظيفيّ كما سبق شرحُه، وأسفتُ أني لم أرتدْ مجلسَه الأسبوعي مغرب كلِّ جمعة لما أنستُه في سلوكي من زهدٍ في القربِ من الرسميين ما يزالُ يسكنني حتى اللحظة؛ فلديهم ما يشغلهم، ولديَّ ما أهتمُ به، وهو خللٌ أعتذرُ منه ولن أتخلى عنه.
وثمة موقف ثالثٌ رسمه أبو عصام بكلماته المنشورة حين أهديتُه عام 2003م كتابيَّ: (ما لم يقله الحاوي: مقارباتٌ في ثقافة التخلف) و(كان اسمُه الغد: رموزٌ في غياب النص)، وحمَّلني من نبله وفضله ما أنوءُ به، وشهد لي بما أعتدُّ بمثله.
العزلة..
في مذكراته روى أستاذنا أبو عصام شيئًا عن انطوائيته وحبِّه للعزلة، ولولا ضجيجُ العمل لخلا إلى مكتبته وأوراقه واكتفى بهما، وفعل ما تمنى بعدما غادر الوظيفة اليومية، وحين تضاءل حضورُه الكتابيَّ افتقدناه، وعلمنا بُعدَه عن الناس، ورغبتَه في الهدوء، ولأنني لم أكن من حضور مجلسه الأسبوعي فقد اكتفيتُ بمتابعة أحواله من أصدقاءَ يعرفونه، وبضعة وتسعون عامًا(وُلد -حفظه الله - في الدرعية عام توحيد المملكة 1351هـ)كفيلةٌ بأن يكتفيَ المرءُ من الحياة بدعاءِ الناس وعبادة ربِّ الناس.
الزيارة..
ظهيرة السبت قبل الماضي 30 سبتمبر هاتفني صديقٌ لا يودُ ذكر اسمه رغم عظيم دوره، ولأني ممن يغلقون خاصية الردّ على الهاتف أحيانًا مكتفيًا بالرسائل فقد وجدته يطلب مني الاتصالَ به لأمرٍ مهم، وفعلتُ فورًا، فأخبرني أنه سعى لترتيب لقاءٍ عاجلٍ مغربَ اليوم نفسه مع أستاذنا أبي عصام، وقلَّ من يُتاحُ له ذلك، وأن المدعُوِّين اثنان فقط؛ هما معالي الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف ومدير جامعة الإمام الأسبق، والمستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء حاليًا، وأنا، واتفقنا أن نلتقيَ عند منزل الشيخ السالم- الذي عرفتُه ذلك اليوم فقط- وكان أجملَ لقاء بأمدِّ قامة مع أرقى صحبة.
مكثنا فوق ما قُرِّر لنا، وتحدث شيخُنا أبو فهد عن مواقفَ له مع أستاذنا أبي عصام، وفيها حبُّه للخير، وسعيُه لإعانة المحتاجين، وشفاعتُه لمن يستحق الشفاعة، وحكايةٌ لهما مع العلامة محمود شاكر -رحمه الله، وتحدثتُ عن قلمه ومذكراته، وعن شهوده مناظرة الشيخين عبدالله القصيمي وأبي عبدالرحمن ابن عقيل -رعاه الله- التي وثقها كتاب: (ليلة في غاردن سيتي) بحضور الشيخ إبراهيم العنقري -رحمه الله.
وطيلة الجلسة كان معالي الأستاذ عبدالعزيز السالم ممسكًا بكتابه ويقرأُ في بعض صفحاته، وكأنه يقول: ها أنا أمامكم شخصًا ونصًا، ولو كان الأمر بيدنا لقلنا: إن الكتاب لم يتجاوزْ أَلِفَ سيرتك، وليس سوى مقدمةٍ لها، أو فهرسٍ بعناوينها، وأتمنى من محبيه أن يتضافروا لتأليف كتابٍ عنه؛ فجزءٌ من مادته موجودة في ملف خاص نشرته «المجلة الثقافية» وقت إدارتي تحريرَها؛ ولعلهم يفعلون؛ ليس من أجله فلن يعنيَه غيرُ الدعاء بل من أجل أجيالٍ تستحق أن تعيَ سيرَ أفذاذها.
ختام
أجتزئُ مما كتبتُه عنه قديمًا ما أختم به:
«أبو عصام معنيٌ بثقافة القِيم كما هو باحثٌ في مآزقها، وقد مثَّل ويُمثّل رقمًا مهمًا في مسيرة الوطن الإدارية والثقافية؛ فعُهد صادقًا نزيهًا، وقُرئَ مخلصًا نبيها».
هامشٌ أخير..
كتب الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- عن إجماع الناس في الشام ونواحيها، والعراق ونواحيها، وخراسان ونواحيها على أن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- رجل صالحٌ كما شهد معاصروه، ومثلما يؤمنُ لاحقوه، والإجماعُ شهادةٌ يعسرُ اتصالُها والاتصافُ بها، وابن حنبل إشارةٌ بعبارة، وأبو عصام - أمدَّه الله بالصحة والسعادة - من الندرة الذين يعدمون الذامّ، و»ألسنةُ الخلقِ إعلامُ الحق».
ليتنا نقتفي فنكتفي.