سهام القحطاني
إن أسوأ ما في كتابة التاريخ الرؤية بعين واحدة!
كنت قد نويت أن يكون مقالي الأسبوع الماضي نهاية المطاف في الحديث عن مسألة النحو العربي وظللها، إلا أن تغريدتي الدكتور محمد الفيصل مدير الشؤون الثقافية على مقالي الأسبوع المنصرف ألهمني بمقال هذا الأسبوع كتعقيب على تلك التغريدتين، والتي تعتبر من القضايا الكبرى التي شغلت الأدب العربي في العصر العباسي وأثارت فتنة عُنّونت «بالشعوبية» وأحاطت بتفاصيلها هوامش غير مقروءة.
يرى الدكتور الفيصل أن العرب هم من تعرضوا للعنصرية من الشعوب «المستعربة» -إن صح لنا استخدام هذا الوصف لكل من دخل إلى الإسلام وأصبحت اللغة العربية لغة الأم بالنسبة له-، وليس العرب هم من سنّوا تلك العنصرية، وفي هذا المقام صوت وصدى!
تُعتبر اللغة المصدر الأول للصراع بين «الغالب والمغلوب» ليس كنظام كلامي -فقط- بل إضافة إلى ذلك كقوالب للتعبير يحفظ للشعوب هويتها اللغوية والثقافية والفكرية، كما تُعدّ من أهم مظاهر حضارة الأمم.
فلم يدرك الخلفاء الأمويون أو العباسيون وهم يتبنون حركة الترجمة، أن هذه الحركة ينمو على هوامشها خطر خفي؛ يكمن في «إحياء مبطنّ لعقائد الأمم المغلوبة» يشتدّ ضوؤه مع الأيام، فالترجمة كانت في ظاهرها رحمة، وفي باطنها فتنة نائمة. ولا أحد ينكر فضل الترجمة في تأسيس حضارة علمية وفكرية إسلامية، لكن كان لها آثار سلبيّة تكمن في احتفاظ تلك الترجمة بروح الأمم المغلوبة التي تحولت بعد ذلك إلى «لعنة صراع حضارات».
في نظرية الغالب والمغلوب، إن الأمم المغلوبة مهما كانت عظمتها فهي تخضع للأمة الغالبة، الأمر يعود إلى فكرة الكمال؛ فالانتصار والغلبة هو مؤشر كمال، ولذا تخضع الأمم المغلوبة للغالبة باعتبارها الأقوى والأكمل، ولذا تبدأ بتقليدها في كل جوانب حياتها بما في ذلك اللغة وقوالبها التعبيرية، وهو ما حدث للأمم المغلوبة بعد الفتح.
وبعد استقرار المجتمع الإسلامي في العصر الأموي، والبدء بترجمة علوم وآداب الشعوب المغلوبة، بدأ ممثلو الشعوب المغلوبة من اكتشاف الخلفيات الثقافية والفكرية للعرب كشعب غالب، والمقارنة بما تملكه تلك الشعوب المغلوبة من هوية فكرية وثقافية وحضارية أقوى من العرب، وهنا بدأت فكرة «الكمال» تتراجع لمصلحة الشعوب المغلوبة كونها تملك هوية حضارية أقوى وأكثر أصالة من العرب الذين يحكمونهم وهي خلاصة ترتبط بمعاييرهم.
إضافة إلى مسألة وأحسبها كانت خشبة وقود قوية في موقدة هذا الصراع، وهي أن العرب مع أنهم هم الغالبون في هذا المقام إلا أنهم كانوا يمارسون سلوكيات المغلوب؛ فبدؤوا يقلدون الأمم المغلوبة في أشكال حياتهم وطرق معيشتهم، واكملوا هذا المسار بترجمة علومهم وآدابهم. وهذا الأمر كان بالنسبة للأمم المغلوبة وخاصة الفرس هو مؤشر على تفوق تراثهم الحضاري والأدبي، مؤشر كان الخطوة الأولى في تأسيس نرجسيتهم العنصرية المبطنة.
ظهرت إرهاصات الشعوبية في العصر الأموي على يدّ الشاعر «إسماعيل بن يسّار»
والذي يقول مهاجمًا العرب في موقفهم من المرأة:
فاتركي الفخر يا»أُمامُ» علينا
واتركي الجور وانطقي بالصواب
وأسالي، إن جهلت، عنّا وعنكم
كيف كنّا في سالف الأحقاب
إذ نُربي بناتنا وتدسو
ن سفاها، بناتكم في التراب!!
إلا أن هذه الإرهاصات لم يستقم لها ظهر؛ لأسباب عدة، منها: أن الشعوب المغلوبة ما تزال في صدمة الغلبة والخوف من السلطان الجديد، انشغال المسلمين بالفتوحات، صور المقارنة الحضارية لم تتضح بعد؛ إذ ما زالت الترجمة في بداياتها، سيطرة الشعر الحماسي على أدب هذه الفترة، وهي سيطرة لم تتح لأي قوالب تعبيرية متنافسة للظهور.
والبداية الحقيقية للشعوبية بدأت في العصر العباسي عندما سيطر المسلمون من أصول فارسية على مفاصل الدولة العباسية من الباطن، ثم تصفيتهم بعد ذلك.
واعتبر العرب أن الشعوبية تتجاوز المقصد الأدبي إلى مقاصد أيديولوجية، ولذا لا نستغرب تدخل رجال الدين في صراع الشعوبية مثل الإمام أحمد بن حنبل، الذي اعتبر من يقودها من «أراذل الموالي، الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون لهم بفضل»، وبذلك فقد اشعل رجال الدين نار هذه الفتنة بدلاً من إخمادها.
وأغلب الدراسات العربية التي حللت الحركة الشعوبية كانت تتحيّز للعرب، وبذلك فقد حمّلوا أصحاب هذه الحركة «الخطأ كله» وأخرجوا العرب من دائرة الاتهام، وهذا غير صحيح، وهو حديث لاحق.
إن حكمنا على الشعوبية مستمد من خلال كتابة الجانب المعادي لها، وهم رجال الدين والمتعصبون من أدباء العربية، وهذا معيار لا يتصف بالعدل والإنصاف، لذا لابدّ أن هناك جانبًا خفيًا من هذه الرواية.
إن أسوأ ما في كتابه التاريخ الرؤية بعين واحدة؛ لأنك ترى نصف الأشياء، وتجعلك تقيم الرواية التاريخية بصورة أحادية، وهنا قد يقع التاريخ في الكذب أو التزوير.