د.محمد الدبيسي
الطيب الأنصاري ومدرسة العلوم الشرعية:
أسَّسَ السيد أحمد بن حبيب الله الفيض آبادي، مدرسة العلوم الشرعية عام (1340هـ=1921م) في المدينة المنورة، بالقرب من المسجد النبوي الشريف، وانخرط فيها جلُّ أبناء المدينة المنورة في ذلك الحين، الذين أصبح المجتهدون النُّجَباء منهم فيما بعد أعلامًا بارزين، في مجالات الأدب والتاريخ، والإدارة، والصحافة، والعلوم الشرعية والعربية.
وكان لهذه المدرسة الجامعة أثرٌ علميٌّ واجتماعيٌّ بارزٌ في المدينة المنورة، ولا سيما خلال العقود (الخمسة) الأولى من نشأتها، وكان منهاجها الدراسي وجلُّ تلاميذها، ومستوى كفاءة المعلِّمِين الأُوَل فيها؛ تُعادلُ ما هو قائم اليوم في بعض جامعاتنا، التي تُعنى بالنَّوعية نفسها من المناهج والعلوم.
ولمَّا كان الفيض آبادي حريصًا على انتقاء ذوي الأهليَّة والكفاءة، ليعاونوه في القيام بشؤون المدرسة في الإدارة والتدريس؛ لم يكن له إلا ليختار الطيِّب الأنصاري مدرِّسًا ورئيسًا للمدرسين، وذلك في عام (1342هـ=1923م) بعد أن ترسَّخَ حضوره في حِلَق العلم في المسجد الشريف، وعلا شأنه عالمًا ومُعلِّمًا في مجتمع المدينة المنورة.
يقول عبد القدوس: «وحينما أسَّسَ أُستاذنا السيد أحمد الفيض آبادي مدرسة العلوم الشرعية، سنة (1340هـ=1921م) وعيَّن فيما بعد أُستاذنا المرحوم محمد الطيِّب الأنصاري رئيسًا لمدرسيها انتظم تلميذاه: عبيد مدني، وعبد القدوس الأنصاري في سلك طلابها، وأذكُرُ أنَّ المدرسة كانت فتحًا جديدًا في المدينة، فهي مثل الفلاح في مكة وجدة من هذه الناحية» (عبد القدوس الأنصاري، من بُناةِ العِلْمِ في الحجاز الحديث السيد أحمد الفيض آبادي)، ووجُه الشَّبَه بين المدرستين -كما رأى عبد القدوس- من حيث الأثر الاجتماعي والتنويري، والثقافي الواسع، والدَّور التعليمي العميق والهادف، وكفاءة المدرسين والطلاب في النِّطاق الجغرافي لكلٍّ منهما.
وكانت مدرسة العلوم الشرعية قد ابتدأت في سنة نشأتها الأولى «باثني عشر مُعلِّمًا، على رأسهم محمد الطيِّب الأنصاري» ( محمد علي مغربي، أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري، 4/16)، وكانت إبَّان تلك النَّشأة مدرسةً جامعةً بحق، يتلقَّى التلاميذ فيها مبادئ التعليم الأوَّلي: التحضيري، ثمَّ يختلفون إلى شُعَبٍ وأقسامٍ عديدة في العلوم الشرعية والعربية، بحسب كفاءتهم أولًا ..، ثمَّ اختيارهم الشخصي، وصولًا إلى: القسم العالي، الذي يؤهِّل خِرِّيجيه للعمل في ميدان التعليم، كما هو شأن عبد القدوس الأنصاري، الذي اُختير للتدريس فيها بعد تخرُّجه منها.
وقد أورد في (مُذكِّراته) قصة اختيار الشيخ الطيِّب الأنصاري رئيسًا لمدرِّسي مدرسة العلوم الشرعية، بقوله: «في ذات أصيل من عام (1342هـ)، اجتمع الشيخ محمد الطيِّب الأنصاري، والسيد أحمد الفيض آبادي في أحد صفوف أَروقة المسجد النبوي الأمامية، وكان الاجتماع عفويًّا، بعد أن صلَّينا العصر بجانب بعض, وقد تصافح الشَّيخان، وكان السيد أحمد قد أسَّسَ مدرسة العلوم الشرعية قُبيل ذلك، وأذكُرُ أنَّي كنتُ جالسًا إلى جانب الشيخ محمد الطيِّب الأنصاري، كما أذكُرُ أنَّ السيد أحمد همس في أذنه همسًا خفيفًا، أدركتُ منه أنَّه يطلبُ إليه أن ينْضمَّ إلى المدرسة، وأن يكون رئيس مدرِّسيها، وأن ندخلَ المدرسة أنا وزميلي وبعض طلاب الشيخ؛ فوافق الشيخ، واستجاب لرغبة السيد أحمد، وهكذا دخل المدرسة رئيسًا لمدرِّسيها، ودخلناها طلابًا» (عبد القدوس الأنصاري، ذكرياتٌ غير مَنسِيَّة، الحلقة الثانية، المنهل، مج 39، شوال1389هـ =سبتمبر 1978م، ص647).
وهكذا أصاب الاختيار وصَحَّ واستقامَ؛ ببركة المكان وشرف الموضوع، ومكانة الأشخاص، وكان للطيب الأنصاري أثرٌ واضحٌ في البيئة التعليمية في المدرسة، وإلى جانب رئاسته للمدرسين، عمل مُدرِّسًا للعلوم الدينية والعربية في المدرسة، ويُشار إليه كأحد ركائزها المتينة، بما نتج عن وجوده فيها من أثرٍ علمي إيجابي بالغ، ورعاية لمصالح التلاميذ والمدرسين على حدٍّ سواء.
ويعدُّ محمد حسين زيدان: «الطيِّب الأنصاري ثالث ثلاثة تزيَّنت بهم مدرسة العلوم الشرعية، وهم: الشيخ محمد الأمين الليبي، الزَّاهد التَّقي الواسع المعرفة، والشيخ محمد عبد القادر الكيلاني، والشيخ محمد الطيِّب الأنصاري، وكان الثلاثة كبارًا في عِلْمِهم، وتعاملهم وحنانهم على التلاميذ»(محمد حسين زيدان، الأعمال الكاملة، أشياخ ومقالات، كتاب الإثنينية 24، نشر عبد المقصود خوجة، جدة، ط1، 1426هـ=2005م، 5/258)
واستقام أمر المدرسة على أيديهم، وعلا شأنها وقوي دورها، وآتت ثمارها يانعةً بالغة النفع، في حقبة انتقل فيها التعليم المدرسي بالمدينة المنورة عبر هذه المدرسة، إلى مكانة متقدِّمة، بفضل نهجٍ إداري سديد، ومقرَّرَات علمية أصيلة في العلوم الدينية والعربية، وبجهود مُعلِّميها الأكفاء المُخلصين، من خيرة علماء المدينة المنورة، ومنهم الطيِّب الأنصاري، كبير مُعلِّمِيها ورئيس مُدرِّسيها، الذي لم يفتأ يقوم بمسؤولياته فيها بصبرٍ ودأب، وإذا ما اعترى أمر التدريس فيها مُشْكِلٌ أو نزاع؛ هبَّ لحَلِّه، وتحمُّل نتائجه بكلِّ ما فيها.
ومن ذلك ما أورده الزيدان في مُذكِّراته، بقوله: « تَمَّ للشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ، أن يعزل الشيخ عبد القادر الشلبي، وأمر أن تُدرَّس عقيدة السَّلَف الواسطيَّة و(الثلاثة الأُصول)، بدلًا من السَّنوسية، والجوهرة للَّقاني، والرسالة لمحمد عبده، وكلَّفَ الشيخ عبد الله أُستاذنا محمد الطيِّب الأنصاري بأن يُدرِّس عقيدة السَّلَف، وحضر الشيخ الأنصاري ليعرف الجدول، واجتمع المدير والأساتذة وكنت بينهم، فإذا بهم يُحرجِون الشيخ الأنصاري، يتركون له كل الفصول، وهي أكثر من ثماني ساعات، وأكثر من عشرين ساعة ليقوم بالتدريس، مع أنَّ ذلك يُكلِّفه الكثير ولم يُعطَ مكافأةً لذلك» (محمد حسين زيدان، ذكريات العهود الثلاثة، جداول للنشر والتوزيع، الكويت، ط2، 2011م، ص173)، وقد سانده الزيدان، وأعانه في أداء مهمَّته الشَّاقة تلك، وكان ذلك الموقف بدايةً لعودة الودِّ بينهما، بعد جفوةٍ أشار إليها الزيدان، ولم يذكر أسبابها.
وتكشف هذه الواقعةُ التي يرويها الزيدان في مُذكِّراته وكان من شُهودها؛ شدَّة إخلاص الطيِّب الأنصاري للمُهمَّة التي أُوكلَ أمرها إليه في التدريس وفي إدارة المدرسين، مهما كلَّفَه ذلك الكثير من جهد ومشقَّة، وهو المَسلك الخُلُقي نفسه الذي تحلَّى به وانتهجه طيلة مسيرته في التدريس، سواء في المسجد النبوي الشريف، أو في مدرسة العلوم الشرعية، التي أبدى خلال عمله فيها إخلاصًا وكياسةً، وإدارةً حكيمةً في معالجة ما يطرأُ من مشكلات.
وكان المنهج التعليمي في مدرسة العلوم الشرعية قائمًا على العناية بدراسة الأُصول المرجعيَّة في كلِّ صنفٍ من صُنوف المعرفة الدينية والعربية وغيرها، بحسب ما يرويه عبد القدوس الأنصاري عن مرحلة دراسته في مدرسة العلوم الشرعية، والعلوم التي تلقَّاها وزملاؤُه على يد شيخهم الطيِّب الأنصاري، حيث فصَّلَ في ذِكْرِ العلوم التي دَرَسَها، ورفاقه: ضياء الدين رجب، وأبو بكر التُّمْبُكتي، وعثمان حافظ، وعبيد مدني، وإسماعيل حِفْظي، وعلي حافظ، وغيرهم، ويكاد حديثه في مُذكِّراته حول هذه المسألة؛ أن يكون سِجلًّا وثائقيًّا للمنهاج الدراسي المُعتمد في مدرسة العلوم الشرعية، والمراجع العلمية المقرَّرَة فيها، في العقيدة، والحديث، والتفسير، والفقه والأُصول، والمنطق، والسِّيرة والتاريخ، والنَّحو والصَّرف، والبلاغة والأدب، التي تولَّى الطيِّب الأنصاري تدريسهم إياها كافّة، يقول عبد القدوس الأنصاري: «وقد دخلتُ مدرسة العلوم الشرعية في هذه المرحلة، مع زملاء لي تدرَّجَوا في دراسة العلوم على يد شيخنا، ودرسنا على يدي شيخنا الطيِّب الأنصاري، كتب اللغة كـ(فقه اللغة) للثَّعالبي، و(كفاية المتحفِّظ)، ثمَّ مضيتُ إلى علم التفسير، وأول ما درستُه (تفسير الجلالين)، ثمَّ (تفسير البيضاوي)، ثمَّ تفسير الطبري، ثمَّ بدأتُ في دراسة علم العقائد، بدءًا بكتاب (أمّ البراهين)، وانتهاءً بشرحها الموسَّع، وأخيرًا درستُ التاريخ وعلم العروض، وعلم الأدب في (الكامل) للمبرد، و(البيان والتبيين) للجاحظ، ثمَّ (أدب الكاتب) على يد شيخنا محمد الطيِّب الأنصاري.
وأخيرًا كتاب (المعارف) لابن قتيبة، عليه أيضًا، ثمَّ أخيرًا علم الخط العربي، أي: ما يُسمَّى أخيرًا بفنِّ الإملاء في كتاب (الدِّراية شرح النِّقاية) للسيوطي عليه أيضًا, وقد أخذتُ الشهادة العالمية العالية من مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة، وكنت أول الطلاب في أخذِ علامات النجاح العليا» (عبد القدوس الأنصاري، ذكرياتٌ غير مَنِسيَّة، ص632).
ويمكن لمن يتأمَّل ما ذكره عبد القدوس، وما حفل به من معلوماتٍ وتفصيلاتٍ أن يدرك مستوى التعليم، ومقرَّراته المرجعية في العلوم كافة في مدرسة العلوم الشرعية، التي كان الشيخ الطيِّب الأنصاري من أساتيذها البارزين, وكان مُهتمًّا بالأُصول في كلِّ فنٍّ، يتدرَّج في تعليم تلاميذه، وإقرائهم المُتُون العلمية في هذا الفنِّ أو ذاك، مُتقصِّيًا ما يُمكنُهم إدراكه واستيعابه منها، ومَعنيًّا بالمُتُون المَنظُومة، التي تكون أقرب للحفظ والفهم. وبعد إتمامها، واطمئنانه لحُسنِ فهمهم إياها، يوالي تدريسهم بقيَّة العلوم، على المنحى نفسه، من تَوخِّي المُتُون الأصيلة في كلِّ علمٍ وفن، «وكان يرى أنَّ إتقان علم النَّحو واستيعاب مسائله بدقة، هو طريقٌ ممهدٌ لإتقانِ غيره من العلوم»، كما نقل عنه تلميذه عبد القدوس؛ لأنَّ دراسة العلوم الأخرى و(إتقانها) في العقائد والتفس ير، والفقه والحديث وأُصولهما، والأدب والمنطق؛ يقتضي فهم قواعد اللغة، التي كُتبت بها تلك العلوم، ونُظُم بنائها ودلالاتها، ومساحات المعنى وأبعاده في جُمَلِها وتراكيبها.
** **
يتبع