حامد أحمد الشريف
في العادة أدوِّن أوّلًا بأوّل كلَّ ما يأتي في مخيّلتي عن أيّ كتابٍ أقرأه، حتّى إذا ما انتهيت منهّ أصبح لديّ مادة دسمة يمكن أن أبني عليها دراسةً نقديّةً وتعريفًا إبداعيًّا بالكتاب. ولم يوقفني عن هذا الإجراء إلّا سوءُ بعض الكتب التي أتوقف مبكِّرًا عن متابعتها؛ فأنا قد وطّنت نفسي على الحديث عن الجمال فقط - إن كانت له الغلبة - وذكر بعض الهنات التي تعجز عن تشويهه، فالسوء الكتابي -في ظنّي -لا يستحقّ أن يُفرَد له مقال أو دراسة مستقلّة، وإنما يأتي شذرًا في سياق الحديث عن الجمال.
لم يشذّ عن هذه القاعدة إلّا كاتب واحدٌ لم يمنح مداد قلمي القوّة الكافية للكتابة عن أحرفه، رغم عذوبة كتاباته ووضاءتها التي تجعلني أبتسم افتتانًا بإبداعاته السرديّة والمقاليّة. ومع ذلك، لم أستطع كتابة حرفٍ واحدٍ عنه، ولا أعلم سبب ذلك, قد يكون الجمال استغرقني ولم يمنحني فرصةً لالتقاط الأنفاس، أو أننّي وجدت حُسنًا يُشاهَد ويُقرأ ولكن يصعب الحديث عنه، أو هي لحظات الانبهار التي غالبًا ما تشلُّ حواس المتلقّي فيعجز عن الكلام... لا أدري. كلّ ما أعرفه أنّني انتهيت من المجموعة القصصيّة «سيّدة في خدمتك»، للكاتب المصري الراحل إحسان عبدالقدوس، ولم أدوِّن حرفًا واحدًا، مع أنّ قصصه لم تبرح مخيّلتي، عشتها بكلّ جوارحي، وعشت كلّ تفاصيلها، فتجوّلت في أنحاء أوروبّا ولبنان والعالم بدلًا عنه، وكأنّني البطل الذي يقود كلّ معاركه الغراميّة والسياسيّة والفلسفيّة. لكنّ القلم خذلني ولم يمنحني الفرصة للتعبير عن هذا الإحساس الذي يختلج في صدري ويُبقي ابتسامتي حاضرة طالما الكتاب في يدي.
واليوم أكاد أوشك على الانتهاء من كتابه الثاني «صانع الحبّ»، ولا تزال الإشكاليّة نفسها حاضرة، فقلمي ممتنع عن الكتابة، ويقود تمرُّدًا وعصيانًا على ذائقتي المترعة بمحبّة ما قرأت، ورغبتي الجامحة في سكب ذلك على قراطيسي. ولعلّه من الظلم حبس هذا الإحساس بالجمال، وعدم التصريح به. فأنا على قناعة بأنّ الكتابة النقديّة ليست منحة من القارئ للمؤلِّف، بل واجب يُحاسَبُ عليه، إلّا إن كان السبب يفوق قدراتنا أو إرادتنا، كالحالة التي أمرّ بها الآن وأنا أقف عاجزًا عن تدوين أيٍّ من العبارات والأفكار التي تتنافس في ما بينها، وتسعى لإرضائي وإشباع نهمي القرائيّ والجماليّ، والارتقاء بذائقتي. فالقلم لا يزال مصرًّا على موقفه، وتبِعَهُ في ذلك عقلي، ولم يتضامن معي غير مشاعري التي بتّ حانقًا عليها بدل شكري لها، رغم رقّتها ووقفتها الصادقة؛ فهي بدون القلم والعقل لا قيمة لها، بل أصبحت وبالًا عليَّ، إذ لولاها لما شعرت بتمرُّد قلمي.
كنت، وأنا أتوغّل أكثر في النصوص، أزداد افتتانًا بمستوياتها القرائيّة، وبمضامينها الهادفة، وقدراتها الحكائيّة، وبساطتها المخاتلة، وفلسفتها العميقة، وأفكارها الرائعة والأصيلة، واختزالها وتكثيفها المدهَشين، وواقعيّتها المزلزلة، وبداياتها المستفهِمة، ونهاياتها المقلِقة المستحوذة، وكذلك بتجرُّئِها على قواعد القصّة وعدم التزامها بها... فلم أقم بتدوين حرفٍ واحدٍ عن ذلك كلّه. كان مجرّد إحساس بداخليّ، وتعبيرات تظهر على صفحة وجهي، وتوقّفاتٍ ومعاودة قراءة أشعر معها بسعادة كبيرة، في وقتٍ بقي الصمت الكتابي حاضرًا.
ربّما تعتقدون أنّني أبالغ، فهناك - يقينًا - من يفوقون عبدالقدّوس، إذا ما كانت القصّة القصيرة هي الفيصل بيننا، في ظلّ أن بعض كتاباته القصصيّة قد يصعب تجنيسها أو نسبتها. ولكن مهلًا، أيمكن أن يكون هذا هو السبب الذي جفّف مداد قلمي؟ فقد يكون فعله هذا نتيجة محبّته للأجناس الأدبيّة، وعدم رغبته في الانسياق وراء مثل هذه التجاوزات التي قد يترتّب عليها إفساد الذائقة. فإن كان إحسان وكلّ أبناء جيله يمتلكون ما ينجّيهم من المحاسبة، ويجعل كتبهم تُقرأ في كلّ أحوالها، فإنّ غيرهم من المتقدّمين قد لا يملك القدرات التي امتلكوها، ما جعلنا نتعثّر كثيرًا بكتابات مشوّهة، منها كتب مجنّسة، لا تستحقّ جميعها الكتابة والنشر.
أنا حزين بالفعل، إذ أقف عاجزًا عن دفع قلمي لرصد هذا الواقع الإبداعي الذي أعيشه والتحدُّث عنه. ولكن، ألا تُعَدّ هذه الأسطر المدوّنة كتابة؟
يبدو لي أنّ القلم بالفعل بدأ يتزحزح عن موقفه، ولم يعد بذلك التشبُّث الذي كان عليه سابقًا، فأنا أشعر به يطاوعني، وإن قليلًا. ألم تلاحظوا أنّني أطريت الرجل في أكثر من موضع، وإن بعبارات حمّالة أوجه، وبشيء من التردد بين المتناقضات؟ يبدو لي أنّه قرّر بالفعل الرجوع عن موقفه وإعطائي الضوء الأخضر للكتابة. ولكن بأنفة وعزّة، ودون ابتذال. محاكيًا تدلّل الغانيات، وتمنُّع الحسناوات، وتدرُّج المهلكات... أظنّ أنّ ذلك حدث وقت قرأنا سويّة قصّة «فتاة من لندن»، فإحسان المتخفّي خلف الراوي العليم، قدّم لبطلة هذه القصّة نصيحة توزَن بماء الذهب، ولم تكن كفيلة بإقناعها هي وحدها، بل أقنعت قلمي أيضًا كي يعود عن مقاومته وعصيانه، ويقرّر منْحَ مداده التدفّق المعتاد. أكاد أجزم بذلك. وأظنّكم ستوافقونني عندما تطالعون معي نصيحته لها، وتعريته للموقف الذي تعيشه. والعجيب أنّني تأثّرت كثيرًا بفلسفته، أكثر من تأثّر الفتاة التي رغم إنفاذها ما قاله لها، لم تنجح في تجاوز الموقف؛ فعندما واجهها سيّدها المقعد بصمته ولم يردَّ عليها مطلقًا، رغم شتمها له، عادت للخضوع مرّة أخرى، وبطريقةٍ أعنف من سابقتها، وهو ما عبّرت عنه في قولها:
«ركعت تحت قدميه وقبّلت كلتا يديه وطلبت منه الصفح.. وقد صفح... وشكر الله» انتهى كلامها.
يظهر أنّ استفادتنا، أنا وقلمي، فاقت بالفعل استفادة الفتاة التي لم تستطع الصمود حتّى النهاية، ونكست على أعقابها بعد ممارسته جبروتًا من نوعٍ آخر، هو جبروت وطغيان الصّمت.
قال لها إحسان يومها ناصحًا:
«وهي الآن تسأله - تسأل صديقها المصري - ماذا تفعل؟ وكيف توقظ نفسها من هذا الحلم المزعج الذي تعيش فيه؟
فأجابها بأنّ الرجل ليست فيه القوّة التي تتصوّرها، وإنّما هي فتاة طيّبة القلب، أشفقت عليه عندما رأته لأوّل مرّة، وتمادت في شفقتها حتّى ضعفت أمامه، تمامًا كما فعل اليهود، فقد أخضعوا العالم لهم بإثارة الشفقة عليهم، وكما تفعل كلّ أقلّيّةٍ ضعيفة، في أيّ بلد من بلاد العالم، تشكو من اضطهاد الأغلبيّة لها، وتستمرّ في شكواها حتّى ترقَّ لها القلوب، ويجتمع العالم مدافعًا عنها. وينتهي الأمر بأن تَضطهدَ الأقلَيّةُ الأغلبيّة، وتبدأ الأغلبيّة بالشكوى.
إنّ هذا الرجل هو الأقلّيّة التي تضطهد الأغلبيّة... هو الضّعف الذي انتصر على القوّة... هو القبح الذي سيطر على الجمال، ولو لم تضطهده زوجته وتُشعره في كلّ لحظة بضعفه، وتعيّره بمرضه، لاضطهدها هو، وصبّ حقده على العالم الذي حرمه من المتعة، بل حقده على الله الذي شلَّ جسده.
ونظر إليها محاولًا أن يهبها القوّة وأن ينصرها على ضعفها، ويقنعها بحديثه، وقال وهو يضغط على كلماته:
«قولي له «لا» مرّةً واحدة، حاولي أن تشعريه بقوّتك أمام ضعفه.. وأن تجرحي إحساسه وتنزليه من عرش الطغاة.. قولي له إنّه مشلول وأنّه مريض وأنّ مرضه قد خلق فيه الحقد والكراهية وحبّ الطغيان، وأنّه لذلك يريد أن يطغى عليك ويريد أن يضطهدك لا لشيء إلّا لأنّك كاملة الجسم وهو ناقصه، وأنّك جميلة وهو مشوَّه.. قولي له ذلك مرّةً واحدة وبعدها ستضمحلّ شخصيّته أمامك وستطهّرين دمك وأفكارك من سمِّه الأسود وسحره الأزرق، ستشعرين بعدها أنّك سيّدته وسيلعق حذاءكِ كالكلب ويطلب رحمتك ومعونتك وشفقتك.. حاولي.. حاولي..» انتهى كلامه.
إنّ ما قاله إحسان للفتاة ليخرجها من جبروت سيّدها المقعد، كان سببًا في تخلّصي من ضعفي أمام قلمي الذي لا يقوى على شيءٍ بدوني؛ فأنا مَن يمنحه فرصة الكتابة، ومَن يوقفه عن ذلك، ومَن ينزع الغطاء عن رأسه أو يطمس هويّته، ومَن يبقيه داخل جيبي، ومَن يخرجه للعلن، ومَن يجعله مهملًا لا يعلم به أحد، ومَن يضعه أمام الجميع متباهيًا به. لقد تذكّرت كلّ ذلك وأنا أسمع نصيحة عبدالقدوس التي - يقينًا - لم يخصَّ بها الفتاة وحدها، بل شملت كلّ من يجد نفسه واقعًا تحت طغيان الضعيف، أو من يستثمر ضعفه ويوظّفه للتجبّر. بالضبط كما كان يفعل قلمي الذي لولا فكري وفلسفتي ولغتي ما كان له وجود، ومع ذلك، كان سيبقى على عناده، ولما استطعت تحبير هذا المقال لولا هذا النصّ الثوري. فقد بات يعلم جيّدًا أنّ الصمت لن يجدي نفعًا، وقد برهنَت القصّة على أنّه أيضًا ضمن أسلحة الضعيف التي ينبغي عدم الخضوع لها. لقد أدرك قلمي تمامًا أنّني لن أسمح له بالهيمنة على إرادتي طالما كان باستطاعتي كسره في ثوانٍ، ونسيان أمره، وتعويضه بألفٍ غيره.
بعدما وُضِعت النقاط على الحروف وبات كلٌّ منّا يعلم مكانته الحقيقيّة، انطلق قلمي باستكانةٍ عجيبة يدوِّن ما أريده عن هذا الكتاب الممتع والمفيد، وبات أكثر تبصُّرًا منّي وهو يأخذ بيدي لفهم كلّ فلسفةٍ وردت فيه، ويبطئني، بل ويستوقفني عندما أندفع مع جمال الكتابة ولا أتنبّه لفكرة مجنونة كدت أتجاوزها. وبالفعل تحوّل قلمي من مُعارض مشاكس يتلمس أخطائي ويحاربني بها، إلى تابعٍ ذليل يفني وقته في محاولة فهم نمط تفكيري وتقدير احتياجاتي، حتّى قبل أن أطلبها، ورسم الحياة كلّها بالطريقة التي تتناسب معي. عندها، لم أجد صعوبةً في تجاوز محنة عبدالقدّوس وكتابته المخرسة، واستطعت الانطلاق مرّةً أخرى متحدِّثًا عنه.
وقد شرعت بالفعل في الحديث عن كتابات هذا الرجل، فإنّي أستسمحكم أوّلًا في شكر قلمي الذي عاد للانضواء تحت لوائي، وبات الآن أفضل ممّا كان عليه سابقًا. لذلك، سننطلق سويّة للاستمتاع بالحديث عن الكتاب الذي خلق هذه المشكلة، واستطاع مؤلِّفه ـ بفضل فلسفته العالية وقدراته الكتابيّة ـ إنهاءها. وبعد، إنّ إحسان بوّب كتابه «صانع الحب» الصادر عن الدار المصريّة اللبنانيّة في عام 2017م.، بـ «قصص» فقط، وهو يقع في 172 صفحة من القطع المتوسط، تتضمّن إحدى وعشرين قصّة، هي في مجملها قصص واقعيّة، بفلسفة ومنهجيّة مختلفة عمّا نعرفه، تعمّد تركها عائمة على سطح الماء لا تنتمي لأيّ يابسة أو جزيرة من جزر الأدب. وهو ما أقرّ به في مقدّمة الكتاب حيث أعلن صراحة أنّ قصصه لا تنتمي إلى أدب القصّة القصيرة، وأطلق عليها وصف «قصص صحفية»، خلال نقاش فلسفيّ غاية في المتعة، حاول فيه بيان الفرق بين الأديب والصحفي، بالسؤال الصريح الذي بدأ به مقدّمة الطبعة الأولى الصادرة عن مطبوعات أخبار اليوم في عام 1952م. وكان قد كتبها في العام 1946م. أثناء زيارته الأولى إلى أوروبا. ويعَدّ هذا الكتاب - في ما أعلم - أوّل مجموعاته المنشورة، حيث تساءل في تلك المقدِّمة الإبداعيّة:
هل أنا صحفي..؟
هل أنا أديب..؟»
في الواقع، لم يطرح هذا السؤال ليستقصي الإجابات حوله، ومن ثم يقّرر، حسب رأي جمهور القرّاء، إن كان أديبًا أم صحفيًّا. وإنّما أراد صنع مقدّمة مستفزّة للقارئ، تدفعه لمتابعة قراءة مقدّمته التي يعلم جيّدًا أنّها غالبًا لا تُقرأ. في وقت كان يدرك قيمتها، بنرجسيّته الإبداعيّة المعهودة، وهو يبدأها بهذا الاستفهام المستفزّ والمحفزّ على المواصلة، وبالفعل لم تكن كباقي المقدِّمات، وإنّما تليق باسمه وبالمحتوى الإبداعيّ الذي اكتنزته فلسفات حياتيّة عظيمة، وتناولته قدراتٌ كتابيّة بديعة، وجمعه خيالٌ جامحٌ خصب قلّ نظيره. لذا، وظّفَ أدواته الإبداعيّة للإمساك بالقارئ من خلال هذا الاستفهام المربك الذي يخلق إشكاليّةً حقيقيّة في ذهنه، تدفعه لخوض الصراع مع الكاتب مبكِّرًا، محاولًا استظهار النتيجة النهائيّة وتحديد إن كان الكاتب بالفعل صحفيًّا أم أديبًا. ومع أنّ إحسان يعرف يقينًا الإجابة على هذا السؤال، هو المولود من رحم الصحافة، فأمّه روز اليوسف الغنيّة عن التعريف، وكان قبل ذلك صحفيًّا، ويعلم جيّدًا الفرق بين الأدب التخيّلي والعمل الصحفي الخبري التقريري، ولم يكن بحاجة لطرح هذا السؤال، وإنّما استخدم أسلوبًا غايةً في الروعة، أقحمنا من خلاله في موقف تعليميّ أداره بالتشارك النقاشي الذي يعَدّ من أهمّ طرق إيصال المعلومة.
ولقد كان باستطاعته الدخول مباشرة إلى الموضوع، وإخبارنا أنّه يكتب القصّة الصحفيّة، ويذكر لنا خواصّها التي يسهل التأكُّد منها بعد قراءة أوّل قصّة له، مغلقًا بذلك الباب في وجه أيِّ متحذلق يتوارى خلف الأجناس الأدبيّة ليعيث في النصوص فسادًا، وهو يترك كلَّ هذا الجمال ويذهب باتّجاه انتقاده والتقليل من قيمته. لكنّه لم يفعل ذلك بالمباشرة اليسيرة، لرغبته - في ما يبدو - في توظيف المقدّمة ووضعها على قدم المساواة مع باقي القصص، بتضمينها فلسفة معيّنة يريد إيصالها إلى القارئ بطريقة أكثر إمتاعًا وإقناعًا، وهو يخبره عن صناعته جنسًا أدبيًّا جديدًا، يجمع بين القصّة بوصفها وسيلةً رائعة لاجتذاب المتلقّي، وغرس المفاهيم في ذهنه اعتمادًا على الخيال، وبين الكتابة المقاليّة الواقعيّة المباشرة، محاولًا المزج بينهما، حسب الوصف الذي أتت به المقدّمة، في قوله:
«إنّي عندما أكتب للصحافة يخيَّل إليّ أنّي أديب، وعندما أكتب للأدب يخيّل إليّ أنّي صحفي!!» انتهى كلامه.
وكما نلاحظ، يجنح، هنا أيضًا، لإقحام القارئ في حديثه، بتعجّبه من حالة انفصام يعيشها هو، تمزج بين العمل الصحفي والعمل الأدبي، فلا تستطيع التفريق بينهما. وهو، بالطبع، لم يكن صادقًا في ذلك، إذ إنّه يعلم جيّدًا الفرق بينهما، ويعي تمامًا أنّ في مقدوره الهروب من أحدهما، وبالتالي لا داعي لتعجّبه. وإنّما قال ذلك بهدف غرس الفكرة التي يريدها، بطريقة تشاركيّة ماكرة، تسعى - كما أسلفنا - إلى تجهيز القارئ لقبول نوعيّة القصص الجديدة التي يريد طرحها، ويستبق القول فيها. ولقد كان، بالطبع، يعلم جيّدًا حجم المنافسة غير الشريفة التي يحتملها المجتمع الثقافي، وما سيظهر من نقد يسعى إلى صرف القرّاء عن كتابته الجديدة بذريعة أنّها ليست قصصًا قصيرة، وأنّه كاتب غير جيِّد يحاول تشويه القصّة القصيرة، أو لنقل، إنّه يهرب بتجاوزاته من استحقاقات القصّة الوليدة التي لم يكن يؤمن بها، ولا يريد لكتاباته ارتداء معطفها.
وكان أحد أصدقائي قد شرع مباشرة في التبخيس بقصصه، انطلاقًا من هذه الفكرة، عندما حدّثته عن افتتاني بقلم إحسان. وقد يأتي غيره ليستخدم تابلوه الجنس الذي تذرّع به كثيرون، مع أنّه أراد بذلك الجنوح الغرائزي إيصال شيء من فلسفته عن الروح والجسد. وقد صرّح بذلك على لسان الفتاة الفرنسيّة «فالنتين»، في قصّة «صورة العذراء»، عندما سألها عن إفراطها في اللذّة الجسديّة، وعدم اهتمامها بلذّة الروح، فأجابته وهي تتلمّس بيدها جسدها الفاتن:
ـ « يا صديقي اللذيذ.. إن روحي هنا.. داخل هذا الجسد.. هذا الإطار الجميل.. ولن تحسّ بجمال الروح إذا قدّمتها لك بلا إطار!!» انتهى كلامه. تبسَّمْت يومها في وجه صديقي وأنا أتذكّر مثل هذه العبارات التي أغلقَت هذه النقاشات العقيمة. وكدت أصرخ في وجهه: «لتسقط كلّ القيود التي تمنعنا من الاستمتاع بالجمال».
إنّ التفريعة التي اختارها وأسّس لها، وقد أسماها «القصّة الصحفيّة»، تسمح لنا بهذه اللذّة المباحة، كما فعل الكاتب السعودي عبدالله باهيثم الذي اشتهر في مقالاته الصحفيّة بهذا النوع من القصص الواقعيّة الكوميديّة التي ينطلق من خلالها لقول ما يريد قوله كمقال صحفيّ مباشر. وقد برع في ذلك، لولا أنّ المنيّة لم تسعفه، ورحل مبكِّرًا عن عالمنا. ويمكن بالطبع إدراج ما كان يكتبه مصطفى لطفي المنفلوطي ضمن هذه التقليعة الجديدة، لولا أنّه أرادها مقالة ونشرها على هذا الأساس، رغم اتّكائه على الحكاية في كتابه «النظرات». والأمر فيه تفصيلات كثيرة لو خضنا فيه من هذه الزاوية، واستعرضنا كلّ الأسماء التي امتطت صهوة الحكاية رغم ابتعادها عن القصّة، كإبراهيم أصلان وغيره.
وبالعودة إلى إحسان، فإنّ الرجل تحدّث في هذه المقدّمة، عن فنّ الكتابة عامّة، وفلسفة الأدب والصحافة، والفرق بينهما. ولو فُهِمَت فلسفته بشكل صحيح، لَما كنّا بحاجة للحديث عن التقريريّة والخبريّة في أدب السرد، وقدرة الكاتب المبدع على المزاوجة بين الخيال والواقع، من دون إقحام الكاتب في ثنايا القصّة، وبالتالي إفقادها قيمتها بتداخلها مع الخبر وبُعدها عن الخيال. فالأدب السرديّ هو خيالٌ محض، حتّى وإن بُني على أحداثٍ واقعيّة. والخبر إنّما هو وقائع حقيقيّة مسرودة لا خيال فيها، حتّى وإن اتّسمَ ببعض مواصفات القصّة الواقعيّة، أو تضمّن حكايةً ما. فالخبر سيبقى خبرًا، طالما لم يتدخّل الكاتب ويغيِّر الواقع لإيصال رسائله الخفيّة. وكان إحسان قد اعترف صراحةً بأنّ ما دوّنه في هذا الكتاب لا ينتمي إلى أدب القصّة القصيرة، في قوله: «لا أحبّ أن أسمّي هذا الكتاب «مجموعة من القصص» لأنّ ما فيه ينقصه الكثير من عناصر القصّة، إنما هو «مجموعة من الصور» مرّت أمام عيني في لمحاتٍ عابرة، ثمّ تركت لقلمي أن يرسمها كيفما شاء، ويضيف إليها من «المناظر» والألوان ما شاء». انتهى كلامه.
وكما يلاحظ هنا، إنّ الرجل لم يذكر المصطلح فقط ويهرب من تجاوزاته المزعومة على أدب القصّة، بل بيّن بالتفصيل مواصفات ما يكتبه. وهي حالة وسطيّة، بالفعل، تقع بين القصّة المتخيَّلة غير الواقعيّة، وبين الخبر الصحفي الواقعي، ولا تنتمي إلى أيٍّ من هذين التصنيفَيْن. فكان خياره الرائع بوضعها ضمن فرعٍ أدبيّ جديد، يطلق عليه اسم «القصّة الصحفيّة» وهو ما نجح فيه بالفعل. فمن يقرأ ما كتبه هذا الرجل، من دون إشغال نفسه بكسر القيود، وكلّ ما يقال من كلام يسوِّق له خصوم إبداعه، سيجد نفسه مفتونًا مثلي بكتاباته، وقد يستعصي عليه قلمُه كما استعصى عليّ، قبل إدخاله بيت الطاعة.
ولكثرة المداخل الشيطانيّة التي من الممكن أن يدلف من خلالها البعض للتقليل من قيمة هذا الكاتب، وعدم منحه المكانة العظيمة التي يستحقّها، والتي لا أظنّه نالها إلّا من خلال أعماله السينمائيّة والمسرحيّة المتعدّدة، فإنّني أقول لمن يرى في كتاباته القصصيّة ما يشبه العمل السردي الروائي المشوَّه، بأنّ هذه فرية أيضًا؛ فما كتبه لم يكن يريد له أن يكون رواية، وهو - يقينًا - ليس سيرة ذاتيّة، وإن لم يقل ذلك. فجلّ اشتراطات الرواية والسيرة ليست متوفرة فيه، ويكفي إنّ الحوادث متفرّقة، لا يربط بينها إلّا تجاوزاته الإبداعيّة عندما يعود للحديث عن بعض عناصر قصصه السابقة، كذكره لفرقة الزنوج الخمسة الموسيقيّة في أكثر من قصّة في هذا الكتاب، ومنها قصّةٌ قائمة بذاتها، نقرأها في الصفحة 77. وكذلك إتيانه على ذكر بعضِ الفتيات اللّائي صاحبهنّ، ومعاودته الحديث عن فندق الغرباء بالحيّ اللّاتيني في باريس، في أكثر من قصّة. بما يشعرك أنّ الحدث متواصل، لكنّه - يقينًا - ليس كذلك، بل إنّ كلّ قصّة قائمة بذاتها، لا تحتاج لغيرها لقراءتها وفهمها. في وقتٍ نجد فصول الرواية لا تكتمل متعتها إلّا بالانتهاء منها جميعًا، ولا يمكن فصلها.
إنّ اتّهام روائيٍّ كبير مثل إحسان عبدالقدّوس الذي له عددٌ كبير من الروايات المنشورة المميّزة، بأنّه يكتب خديجًا مشوّهًا يَضيع بين الأجناس الأدبيّة، هو كذبةً كبيرة، يسوِّق لها الناقمون على إبداع قلمه، وغيرُ القادرين على مجاراته في ما يكتب. فمن كتب قصّة «ستّة رجال وفتاة» التي تعدّ أنموذجًا للقصّة القصيرة الإبداعيّة، وكتب رواية «ونسيت أنّي امرأة»، أو رواية «لن أعيش في جلباب أبي» التي تعدّ من أعظم الروايات العربيّة، أظنّه يعرف طريقه جيّدًا، ولن يكون بحاجةٍ للهروب من استحقاقات القصّة والرواية على حدٍّ سواء. لكنّه لم يكن يهدف لكتابة رواية من خلال هذه المجموعة التي نتحدّث عنها، ولم يكن يدوّن سيرته الذاتيّة أيضًا. فالقصص، كما أخبر هو، فيها شيءٌ من التصرُّف الكتابي المتعمّد الذي يمنحها قيمةً معيّنة، ويوظِّفها لإيصال رسائل الكاتب الفلسفيّة والفكريّة. وهذا بالطبع لن يكون بذكر الوقائع كما هي، بصدق السيرة، ولن يكون أيضًا بمنحها صفة الخيال، أكان ذلك من خلال القصّة القصيرة أو الرواية التخيّليّة، وإنّما يكون من خلال «القصّة الصحفيّة» التي يمكن وصفها بدقّة، استنادًا إلى ما ذكره هو في قوله: «إنّما هي الواقع في إطار من الخيال، أو هي الخيال في حدود الواقع.» انتهى كلامه.
ما يعني أنّ قصص إحسان التي نطالعها في أغلب مجموعاته الرائعة، هي قصصٌ واقعيّة، خضعت لمبضع الفيلسوف والمفكّر والكاتب الصحفي، الذي وظّفها لإيصال الرسائل التي يريدها، بذكاءٍ كبير، وأنّ علينا الاستمتاع بها، وترك موضوع تصنيفها؛ فبعض الطعام اللذيذ يصبح من الغباء الحديث عن مكوّناته وطريقة طهية، وإن كان حلوى أو أيّ صنفٍ آخر من الطعام، وإنّما علينا التهامه مباشرة والتلذُّذ بطعمه، طالما كان حلالًا.
الآن وقد وصلنا إلى نهاية حديثنا عن براعة وإبداع إحسان عبدالقدوس الكتابيّة، أظنّكم تلاحظون أنّني لم أتخلّص من ضعفي أمام قلمي المتغطرس، وأنّ هيمنته وقوّته لا تزالان حاضرتين، فأنا لم أتطرّق إلى الكتاب، وإنّما انشغلت بفلسفةٍ كتابيّة يمكن انسحابها على كلّ كتب السرد المقروء. ما يعني أنّني وقعت في مكيدة هذا القلم المراوغ، عندما أوهمني بالكتابة عن «صانع الحب»، في وقت بدا أنّني لم أكتب عنه, وأظنّني، إن لم أعد للحديث عن قصص الكتاب لاحقًا، فإن ذلك يعدُّ نصرًا لقلمٍ متمرِّد لم يرفع القبّعة بعد، وأشغلني بالحديث عن تجنيس الكتابات، أكانت «قصصًا قصيرة» أو «قصصًا صحفيّة».