جواهر الرشيد
ملأ التراث العربي القديم في عصوره المختلفة مشاعر خلفتها معاناة الظروف القاسية التي كابدها البشر وتأثر بها بعدما زارت قلوبهم ولم ترض بالرحيل عنها، فأفصحوا عن مكنونهم بلغة القلب التي صورت عن طريقها حقيقة النفس بأسلوب لغوي عذب وإنتاج أدبي ضخم.
شهد العصر العباسي تطورًا في عدد من المجالات وكان للأدب العربي حظًا وفيرًا في التحول الذي ميزه شعرًا ونثرًا عن سابقيه من العصور، وقد أبدع أبو العلاء المعري بملكته الشعرية وبقدرته التعبيرية عن معالم واقعه في دواوينه وكتبه الأدبية، فخلد شعرًا ونثرًا جديرًا بالقراءة والتعمق فيه تحليلًا ودراسةً وفكرًا.
أسهمت أسرة أبي العلاء في تكوين شخصيته الثقافية، فقد تربى في بيت شرف وأدب محب للعلم والثقافة. تبحر في العلوم العربية والنحو والعروض، وأغرق نفسه في القضايا الدينية والفلسفية متعمقًا في الثقافات اليونانية والهندية والفارسية، حتى أصبح قبلةً لطلاب العلم وسائليه. لكن حياته كما يراها بعين قلبه كانت في شقاء ونقمة يخلو منها الخير والنعيم؛ لفقد بصره إثر إصابته بالجدري الذي شوه وجهه في صغره، مما أثر في ثقته بنفسه ونهب براءة طفولته، فكان قلقًا دائم الحذر يشعر بالذل والقصور من الناس حوله مسيئًا الظن بهم، فنظر إلى المجتمع نظرة بغض وكراهية مؤمنًا بأنه مجبولٌ على الغدر والخيانة والشر. أيقن عجزه عن السير نحو طرق الحياة متعثرًا بمحيطه الاجتماعي متأثرًا بقذفهم وحسدهم له مناديًا في شعره بالعدم حتى وصف بالزهد وهو زهدٌ نابعٌ عن حالة نفسية مستنجدًا به ليستشعر بالأمن والأمان ولذة الحرية، يقول:
في الوحدة الراحة العظمى فآخ بها
قلبًا وفي الكون بين الناس أثقال
إن الطبائع لما ألفت جلبت
شرًا تولد فيه القيل والقال
بحث أبو العلاء عن مكانة ترفع شأنه وتعز مكانته فشد رحاله إلى العاصمة الكبرى -بغداد- ليبلغ مداه متسلحًا بذكائه النادر وعلمه الواسع وشاعريته الفذة وما يحمله من ثقافة إلى أن بلغه مرض أمه فآب إلى المعرة، وفي طريقه إليها وصله نعيها فتحسر على رحيلها دون أن يودعها، فعزل نفسه وحرم عليها ملذات الدنيا من زواج وولد، مؤلفا لزومياته، ومظهرًا إبداعاته الشعرية التي حظي عن طريقها على عزة وشموخ لمستقبل مرموق منحه نورًا في درب الحياة معوضًا بصره ببصيرته، ومما قال عن نفسه:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
عرف برهين المحبسين، فسجنه الأول: فقد بصره، أما سجنه الثاني: لزومه بيته بعدما عاد من رحلته البغدادية منفردًا بنفسه متحسرًا على وفاة أمه، وقد أضاف إلى نفسه سجنًا ثالثًا بعدما أمعن في التفكير عن مفاسد الحياة وحقائقها الموجعة والأليمة وهو سجن الروح في الجسد، يقول:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون الروح في الجسد الخبيث
أثرت عليه حياته فجعلته ذا طبع تشاؤمي عرف واشتهر به ومن جانب آخر جعلته علمًا مر على كل العصور دون أن يخفى اسمه على أديب أو لغوي أو ناقد أو فيلسوف جاب فضاءه الرحب، ومما قيل في رثائه:
العلم بعد أبي العلاء مضيع
والأرض خالية الجوانب بلقع
لم يختزن عقله للعالم ملامح ولا رسوم، ولم يدرك للمرئيات جمالًا، فلم يكن لشاعر ضرير مثله أن يصف شيئًا سوى الأشياء المعنوية العائدة على الشعور من فرح وحزن وألم وسعادة، فعاش يجاهد صراعه النفسي بين قوة الإرادة المنبعثة من رجاحة المنطق وعجز الرجاء المقرون بوهن القلب، هذه الثنائية الملازمة لروحه وأرواح البشر جميعهم فجعلتهم رهائن الحس في الروح، قدر أبو العلاء بإحساسه المرهف الذي اغتال قلبه فلملم بالشعر جراحه، ماقتًا على دهره وعاهته الضريرة التي جنت عليه الأسى طوال حياته، فسرى بعجزه ووهنه حاسدًا الجمادات على خلوهم من نقمة ذلك الإحساس الذي حجبهم عن ذلك الشعور وعمّق حرقته، ومما قال:
عز الذي أعفى الجماد فما ترى
حجرًا يغص بمأكل أو يشرق
متعريًا في صيفه وشتائه
ما ريع قط لملبس يتخرق
متجلدا أو خلته متلبدًا
لا دمع فيه بفادح يترقرق
لا حس يؤلمه فيظهر مجزعًا
إن راح يضرب ملطس أو مطرق
والصخر يلبث لا يفارق مرةً
ذنبًا ولا هو من حياء مطرق