أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
تعزيزاً لفرص المقاربة الأسلوبية بين ثقافتي العلوم الإنسانية والطبيعية وردم الفجوة بين تطبيقاتهما، بادرت بعض العلوم الإنسانية لتفسير ظواهرها البشرية باستعارة عددٍ من التراكيب النماذجية التي أنجزها بعض علماء الطبيعة وفلاسفتها مثل بريثويت، وناجل، وهمبل، وهانسون، وتولمان، وويزوم، وبارمورايل. وعلى خطى تلك المقاربات الأسلوبية، يذكر المفكر وعالم الكوانتم السعودي المعروف د. راشد المبارك -رحمه الله- في كتابه «هذا الكون وماذا نعرف عنه» أن بعض فلاسفة علوم الإنسان ومفكريها مثل جون لوك، وآدم سميث، وجان جاك روسو، وتورقوا، وهيجل نادوا بضرورة محاكاة علومهم الإنسانية والفلسفية لقوانين الطبيعة ومقاربتها أسلوبياً بقوانين نيوتن التي تساعد محاكاتها في اعتقادهم على مواجهة الفساد والخلل اللذين يحدثان في المجالات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية تحديداً نتيجة لخروج هذه المجالات عن نسق تلك القوانين.
وتعد علوم الجغرافيا، والبيئة، والاقتصاد، والتخطيط، والنقل والمواصلات على سبيل المثال لا الحصر من أكثر العلوم انفتاحاً على نظم المقاربات المحاكاتية بين العلوم، وأبرزها استعارةً وتوظيفاً للنماذج الهندسية المهنية، وأنجحها التصاقاً بالصيغ الأسلوبية للمعارف الطبيعية البحتة والتطبيقية ومقاربة لها. فيذكر عالم الجغرافيا البارز صفوح خير -رحمه الله- مثلاً في كتابه «مناهج البحث الجغرافي» أن الجغرافيا استخدمت فكرة سريان الحرارة أنموذجاً لمحاكاة الهجرة البشرية. كما استخدم الاقتصاديون الدائرة الكهربائية في معالجة موضوع التوازن المكاني للأسعار فمُثِّل السعر بشدة التيار وحركة البضائع بالتيار نفسه. ووفقاً لما ورد في الكتاب نفسه المنوّه عنه آنفاً فقد استخدم الأساس النظري لديناميكية السوائل أو ما يُعرف بمعادلة الاستمرار كنموذج لحساب تكاليف نقل البضاعة المحلية. واهتمت علوم المواصلات أيضاً بمبدأ الطاقة الحركية المجردة للموجات التي طورت، كما يذكر خير، في أنموذج يشرح ظاهرة الفيضان النهري، وحركة النقل. كما حاكت بعض العلوم الإنسانية ومنها الجغرافيا تحديداً قانون التجاذب والكتلة لحساب مدى الجذب بين المستوطنات البشرية. كما برزت في الساحة العديد من النماذج التطبيقية التي وظفت في تفسير بعض الظواهر البشرية كأنموذج ويبر، والأنموذج الوظيفي والتحليلي الشبكي، وأنموذج ميردال، ونماذج: قاعدة التوريد، وماركوف الكبرى، والنمو والحشد الإقليمي، والكثافة السكانية الحضرية، والبنية التجارية. ونتيجة لتطور المعرفة وتدفق المعلومات بين العلمين الطبيعي والإنساني تنوَّعت النماذج التي استعارتها العلوم الإنسانية وتعددت فروعها وتباينت اتجاهاتها. فظهرت في الساحة التطبيقية لهذه العلوم نماذج الجاذبية، ونماذج لانهارت التي كان لها تأثير إيجابي على بنية النماذج المتعلقة بنظرية الموقع ومثالية التوزيع المكاني كأنموذج بكمان، وأنموذج ماركوف. وقد شهدت العلوم الإنسانية التطبيقية أيضاً تطوراً ملحوظاً في تفاعلها مع العلوم الأخرى وتكاملها معها، فاستعارت من تلك العلوم نماذج حيوية منها على سبيل المثال لا الحصر نماذج الاحتمالات، ونماذج استخدامات الأرض، ونماذج القطاعات والنواة، ونماذج الموقع الصناعي والزراعي. كما اهتمت العلوم الإنسانية التطبيقية ببعض العلوم الطبيعية التي تربط الإنسان بالبيئة وتساعده على تخطيطها، فأدى هذا الاهتمام إلى اسخدام الباحثين في الإنسانيات للنماذج ونظم المحاكاة السائدة في تلك العلوم، كنماذج الدورة الهيدرولوجية، والخرائط الطبغرافية والكنتورية، ونماذج بويل وتشارلز في الديناميكا الحرارية. ولعبت النماذج الهيدرولوجية، والجيومورفولوجية، ونماذج الطقس والمناخ دوراً مهماً في تطوير الأطر التخطيطية والتنموية التي تبنتها العلوم الإنسانية التطبيقية المكانية الحديثة. فاستفادت هذه العلوم بطبيعة الحال من أنظمة محاكاة الطبيعة، والأنظمة الفيزيائية العامة، واستخدمت نتيجة لذلك النماذج الزمكانية الرياضية، والأنظمة المركبة الكلية والجزئية التفكيكية، ومفاهيم الصناديق السوداء ونظائرها البيضاء، ونماذج القياسات النهرية، والنماذج المورفومترية العامة. وتبنت العلوم الأثرية المعاصرة على سبيل المثال لا الحصر النماذج الكيميوفيزيائية المتعلقة بتحديد العمر النسبي للمعثورات وبخاصة تطبيقات كربون 14 التي وظفها، على سبيل المثال لا الحصر، أستاذي الكبير العلامة الآثاري والأكاديمي البارز عرَّاب النقوش في الجزيرة العربية الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الطيب الأنصاري -رحمه الله - وزملاؤه الإجلاء بقسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود في تزمين وتأريخ معثورات قرية الفاو والعلا وغيرهما من المواقع الأثرية في المملكة العربية السعودية. كما تبنى الدكتور عبد الله الخراشي وبعض أعضاء هيئة التدريس بقسم التاريخ بجامعة الملك سعود الأسلوب الإحصائي الوصفي البياني المقارن لرصد المنجز البشري وتحليله عددياً عبر الحضارات البشرية وخاصة الإسلامية منها. ومن أبرز الأمثلة على التراكيب النماذجية وصيغ المحاكاة الراجعة بين الثقافتين الطبيعية والإنسانية تبنيِّ اللسانيات التوليدية نماذج ترتكز جذورها على أصول فيزيائية إجرائية وأنماط فسيولوجية رصينة. فعلى سبيل المثال يذكر مؤلف الكتاب الموسوم «الغريزة اللغوية: كيف يبدع العقل اللغة»، الذي ترجمه إلى العربية الصديق الأكاديمي والعالم المتألق الذائع الصيت الأستاذ الدكتور حمزة المزيني أستاذ اللسانيات السابق بجامعة الملك سعود، أن اللسانيات التوليدية استفادت من نتائج دراسات بعض علماء الفسيولوجي المتعلقة بالظواهر التي تحدث في الدماغ ووظفتها في تفسير بعض أنواع القصور الألسني (اللغوي) عند المصابين بكدمات أو حوادث دماغية.